على أبواب الحرّية ؟!
أحمد علي أحمد علي

على أبواب الحرّية ؟!

جماهير غفيرة، لا تُعدّ ولا تُحصى، رفعت عبر التاريخ شعار الحرية في ساحات فعلها التاريخي؛ شعاراً كثّفت فيه كلّ تَوْقها للتحرر من البؤس والألم..

حين تدقّ لحظة الأماني المؤجلة، تهدرُ الحناجر بما فاضت به القلوب من معاناة، وما فاض به العقل من أحلام، وهذه ليست مصادفة تاريخية، بل قانون موضوعي تَثبّت يوماً بعد يوم في تجربة البشرية... لدى الإنسان مَيْل تاريخي للانعتاق من الضرورات بمختلف أشكالها، ويجري التعبير عن هذا المَيْل عادة بمفهوم الحرية.

ما علاقة الضرورة بالحرية؟!

عندما يُقيّد طرفٌ ما طرفاً آخر بقيدٍ مُعيّن، بالتالي يجعله أسير ضرورة محددة، وهو بهذه العملية يكون قد صنع له حريته المناقضة لتلك الضرورة، وأوّل من عبّر عن تلك العلاقة بين الضرورة والحرية هو الفيلسوف هيجل بقوله: «الحرية معرفة الضرورة». ما يوضّح أن الطريق إلى الحرية يتطلب معرفة الضرورة والوعي بها، يتطلب فكّ عقدتها، وفكّ عقدة الضرورة يتم من خلال معرفة القانونية التي تعمل وفقها..

عن أية حرية نتحدث؟!

لا يدور الحديث هنا عن الحرية الفردية التي يسعى عبرها الفرد الواحد لكي «ينفد بريشه»، ويغرّد في فضاء الدنيا رافعاً لواء نجاحاته الأسطورية التي «سيخلّدها التاريخ»! بل نتحدث عن حرية الجماعة؛ تلك الحرية التي تتحقق من خلال ارتباط الجماعة أشدّ الارتباط بالضرورة، وليس الاستقلال عنها كما يُنادي الكثيرون. فالاستقلال عن الضرورة عوضاً عن كونه وهم، هو ليس حرية أبداً، هو فوضى تُبعد المرء أشدّ البعد عن حرّيته!

بلوغ الحرّية!

«كلّما كان حكم المرء على مسألة معينة أكثر حرّية، تحدّد مضمون هذا الحكم بقدر أكبر من الضّرورة»، جاءت هذه المقولة على لسان الفيلسوف فريدريك أنجلز لتُشير إلى أن الحرّية تخضع إلى تناسب ضروري مع الضرورة، أي مع الواقع وقوانينه الموضوعية. وفي الحقيقة؛ يساعد هذا المفهوم حول الحرية المرء باستعادة لياقته المعرفية، والانتقال بالحرية من سماء الخيال الرومانسي إلى الأرض، حيث تكون الحرّية حيّة وفاعلة، الأمر الذي يُساعد أيضاً بكشف الوجه الحقيقي المادي لها، وخلع رداء القداسة المثالي المجرّد عن الحرية، والمزركش بالشحن المعنوي والعاطفي المتوهج، الذي يجعل من الحرية إله جبروت لا يمكن بلوغه!
وفق هذه القناعة الواقعية؛ تتعزّز الحرية الحقيقية باضطراد مع وعي ضرورات الحياة، والسعي الدائم لإزاحتها عن كاهل الإنسان المتعب والمقهور، الأمر الذي يتطلب؛ عملية خلق إبداعية مستمرة ومتطورة عبر الأيام من قِبل الإنسان، وبشكل أدقّ؛ من قِبل القوى الثورية الطليعية المنظّمة والواعية..

ما هي الضرورة اليوم؟

يمكن القول بعبارة بسيطة: إنّ الانقلاب على الرأسمالية هو الضرورة التي تتربع عرش العالم والبشرية اليوم، وربما هذا الانقلاب هو ضرورة الضرورات في عالم اليوم إنْ صح التعبير، بتحويله إلى واقع تتحرر شعوب العالم أجمع، وما من حريّة أشدُّ بلاغةً من حريّة كهذه..!

تأزّم أزمة!

الانقلاب على الرأسمالية اليوم ضرورة لكونها نظاماً اقتصادياً اجتماعياً سياسياً مُنتهيَ الصلاحية، وفاقداً لإمكانية الاستمرار بفعل أزماته المستعصية، والتي تزداد تأزماً يوماً إثر آخر؛ وليست أزمتا النفط و«كورونا» المستجدتان حالياً إلّا تعبيراً عن تأزّم الأزمة الشاملة للمنظومة الرأسمالية كلّها، هذا التّأزم الإضافي الجديد الذي يُنبِّئ باقتراب النهاية.
لم تُولد هذه الضرورة الآن، بل انبثقت من رحم الحياة منذ زمن بعيد، وخَطتْ خطواتها الأولى ببطء كوليد جديد، لكن ولكونها ابنة الواقع والحياة، فقد اشتدّ عودها، وانتصبت قدماها باسقتان، وشقّت طريقها شيئاً فشيئاً عبر مراحل تطوّر ونمو عدّة، لتصل بنا اليوم إلى أبواب الخروج من هذا السجن الرأسمالي؛ السجن الذي قبع داخله الإنسان حوالي ثلاثة قرون من الزمن، مغترباً ومأسوراً خلف قضبانه الحديدية، ومدفوناً في قلب رئته الحديدية: الحرب بكافة أشكالها.

حُسِمَ الجدل!

ربما من المريح جداً للكاتب في هذه الأيام إعلان نبأ احتضار أو موت الرأسمالية، فهو لا يحتاج للبراهين والأدلة، لأن الوقائع العيانية خير دليل وبرهان، وهي الآن على مرأى الجميع، على العكس تماماً ممّا كان عليه الأمر في بداية القرن الحالي؛ فحين كان ينبس المرء ببنت شفة عن ذلك القدر المحتوم للرأسمالية بالموت، وعن ملامحه الأولية، كان يُرجم بالحجارة وكأنه يكفر بالله جلّ جلاله! بجميع الأحوال، لا مشكلة اليوم، ها قد قالت الحياة كلمتها وحسمت الجدل..

بداية جديدة للحياة!

وعليه؛ فالموت التدريجي والمتسارع للرأسمالية اليوم، يفتح الأبواب لبداية جديدة للحياة، بداية ستكون الأجمل على الإطلاق دون أدنى مبالغة، وتلك الأبواب الجديدة هي ما يمكن بالفعل تسميتها بأبواب الحرية؛ الحرية الجماعية التي ناضلت من أجلها القوى الثورية عبر تاريخها الطويل والعريق.
على أبواب الحرية هذه، وفي أفق الحياة، ترتسم الآن صفحة بيضاء سترسم تفاصيلها ويحدد أبعادها ومضامينها القوى الإنسانية الحيّة بطاقتها وعقولها، وذلك بالاستناد على الوعي البشري الجديد المتشكل الذي راكم تجارب كبيرة وثمينة ستسمح له بتحقيق أحلام البشرية جمعاء في حياة كريمة تنال فيها حقوقها، وفي عدالة تليق بالإنسان ونضالاته عبر التاريخ..

«إكرام الميت دفنه»!

نعم، آن الأوان، والجميع على موعد مع الحرية المنشودة منذ زمن بعيد، و(المشروطة بالعامل الذاتي)، وبالاستناد للشرط الأخير نتابع: طالما أن البشرية وفي مقدمتها القوى الثورية المدفوعة بفعل الضرورة، وصلت إلى هذه اللحظات عبر معرفة ونضال وعمل دؤوب مستمر، وعبر انتفاضات وحركات ثورية طالت أرجاء العالم كلّه، فإن المطلوب اليوم على مشارف التاريخ الحقيقي؛ مزيد من العمل والمعرفة والنضال المكثف والتنظيم؛ مزيد من تضافر الإرادات الحرّة النقيّة، لملاقاة الضرورة بيَد، والدفع بها باليد الأخرى، لتتقدم خطواتها الكبيرة باتجاه تغيّر نوعي مأمول ومنتظر بفارغ الصبر من الجميع، وتحقق ذلك ليس كفيل بدفن الرأسمالية وسجونها مرةً واحدة وإلى الأبد في مقبرة التاريخ فقط، بل وكفيلٌ أيضاً بفتح أبواب الحرّية والحياة على مصراعيها أمام الحشود للانتقال من «مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية»..

معلومات إضافية

العدد رقم:
963
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 15:12