التواصل الاجتماعي والهيمنة الاجتماعية
عمر هيواني عمر هيواني

التواصل الاجتماعي والهيمنة الاجتماعية

ما هو دور وسائل التواصل الاجتماعي في الهيمنة الاجتماعية؟ وكيف يخدم وادي السيليكون سياسات الرأسمالية بشكل عام وسياسات الولايات المتحدة بشكل خاص؟ وهل وسائل التواصل الاجتماعي محايدة حقاً كما تقول عن نفسها؟

عنق الزجاجة

ليس غريباً عن شركة «فيسبوك» محاباة سياسات اليمين المتطرف والصهيونية والترويج لها، ورغم أن «فيسبوك» تبدو كشركة غير متحيزة أو محايدة! إلّا أنها تنسق الأخبار والمعلومات والإعلانات والمنشورات وعمليات البحث بشكل يربطها بعمق مع مصالح المؤسسة الأمنية الأمريكية وطبقة المليارديرات.
نشر والتر ليبمان دراسة عن دور وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام سنة 1922 متحدثاً عن العالم الخارجي والصور التي تتشكل داخل عقولنا، حيث تعمل وسائل الإعلام مثل عنق الزجاجة التي تسمح بوصول المعلومات عن العالم خارجي إلى حواسنا، وتمنع معلومات أخرى من الوصول.
بصرف النظر عن مسألة المعلومات التي يتم تمريرها من خلال عنق الزجاجة هذا، فإنَّ المعلومات المتعلقة بالحدث الذي ينجو من عملية الفرز في مقال أو نشرة أخبار، فهي تتحدد من خلال تحيزات الكاتب أو المحرر. بدورها، فإن السيطرة على المعلومات الخارجة من عنق الزجاجة تعطي وحدة تحكم وقدرة مذهلة على تشكيل وعي الجمهور المتلقي حول «العالم الخارجي»، وصولاً إلى «تصنيع الموافقة أو قبول الخبر» حسب وصف والتر ليبمان.
يبدو أن عمق المعلومات حول العالم التي توفرها شبكة الإنترنت يزيل عنق الزجاجة الذي أثار قلق ليبمان- في الواقع، وحاول جيل من المبشرين التقنيين تقديمه بهذه الطريقة تماماً- ولكن الحقيقة هي أنه لم يستطع حجب الاختناقات والبوتقات التي تقطّر المعلومات من أجل استهلاكنا.
الحديث هنا ليس عن فيسبوك فقط، بل يشمل محرك البحث غوغل وتويتر ومايكروسوفت، وعنق الزجاجة هذا هو ما يصنع الروابط القوية والعميقة بين عمالقة التكنولوجيا الأوليغارشية والدولة الأمنية التي يعتمدون عليها، وإعطاء مصالح النخبة الغنية التأثير الحاسم على كل المعلومات التي نصل إليها وممارسة الرقابة المشبوهة على الناس.

الهيمنة الاجتماعية والإعلامية

تتوزع أدوار هذه العملية بين الشركات التقنية ووكالات الاستخبارات ومراكز الفكر، ومقاولي الدفاع والعسكرة وشركات الأمن باستمرار، وخاصة في المراتب العليا للإدارات المهمة، مثل الأمن السيبراني. والجدير بالذكر أن العديد من هذه الشركات تتوافق مع الميول الحزبية اعتماداً على الميول السياسية لأصحابها، في محاولة لتوجيه آراء الناس نحو وجهة نظرهم الحزبية وتعليب أدمغة البشر بالهراء والشعوذات والأكاذيب. وهنا تسقط الحيادية التي يدعونها، وتبرز آراؤهم الحزبية التي تعمل المؤسسات الكبرى على ضخها إلى عقول الجمهور.
تبنت تلك المؤسسات هذا الدور كبوابة معلومات، كما يقدمون أقساماً خاصة للأخبار على منصاتهم تعمل على طرح تطبيقات جديدة للحكم على مصداقية مصادر الأخبار. وأصبح Facebook وGoogle، على وجه الخصوص، اثنين من أكبر ممولي الصحافة في جميع أنحاء العالم، مما يساعد على ترسيخ نماذج «الحقيقة» التي وافقت عليها وزارة الخارجية الأمريكية ونقاطها الساخنة الرئيسة ذات الأهمية الجيوسياسية، وهو سبب وجود الإنترنت في المقام الأول.

ظهور الإنترنت والعسكرة

سبب ظهور الإنترنت قديم، ويعود إلى ضرورات تطوير أصول الحوسبة وفق مصالح البنتاغون الذي حاول تصميم وتعليب آراء مجتمعات بأكملها لخدمة أغراض الحرب ضد حركات التحرر جنوب شرق آسيا في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وتشكل منصات التواصل الاجتماعي أدوات متطورة ومتخصصة من عمليات البنتاغون ضمن هذا الخط بما يناسب عملياته ضد شعوب الشرق في القرن الواحد والعشرين.

حزبية فيسبوك «الحيادية»

يعتقد ملايين الناس أن «فيسبوك» مؤسسة حيادية، ولكنها مؤسسة حزبية -حربية حتى النخاع. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك مساندة سياسات اليمين والصهيونية، والمشاركة في عمليات وزارات دفاع حلف الناتو التي تسمى «الثورات الملونة» من أجل إجهاض الثورات الحقيقية للشعوب.
حاول مارك زوكربيرغ استرضاء إدارة ترامب في سبيل عدم اتخاذ أي إجراء صارم ضد الدعاية اليمينية. كما حاول خلق «يسار» يناسب المليارديرات لإجهاض أي تغيير ثوري لصالح الطبقة العاملة، وذلك خلال اجتماعات وندوات النبيذ حول حرية التعبير في مقره الخاص بكاليفورنيا.
أصدرت فيسبوك علامة تبويب متخصصة للأخبار على تطبيقه، وصرّحت الشركة على لسان ممثليها بأن لها معايير موضوعية لتقييم الأخبار، واصفين علامة التبويب الجديدة بأنها «مساحة مخصصة لأخبار منظمة وعالية الجودة»، وفي نفس الوقت تتحيز الـ «فيسبوك نيوز» إلى سياسات اليمين المتطرف والعنصرية والصهيونية، أليست هذه الممارسات نشاطات حزبية واضحة كالشمس في النهار؟

حرب المعلومات والاستخبارات

كانت اللقطة الافتتاحية لحرب المعلومات هي اتهام المخابرات الأمريكية بأن المتسلل Guccifer 2.0 كان يعمل نيابة عن روسيا الاتحادية لاختراق خوادم اللجنة الوطنية الديمقراطية DNC وسرقة رسائل البريد الإلكتروني اللعينة التي تكشف الأعمال الداخلية الفاسدة لـ DNC- على وجه التحديد.
وعندما نشر موقع ويكيليكس رسائل البريد الإلكتروني عام 2016 تبين أنّ الـ DNC تعاني من مديونية شديدة، فزعمت المخابرات الأمريكية أن الموقع كان يسيطر عليه الكرملين أيضاً!
هكذا ولدت ما تسمى بمؤامرة Russiagate عند عمالقة وسائل التواصل الاجتماعية، وجاءت بمثابة فرصة جديدة لمضاعفة أساليب التحكم الاجتماعي على وعي الجمهور، وتوجيه وعي الأمريكيين إلى التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لتغطية الحروب الأمريكية في الشرق، وشارك في ذلك كل من فيسبوك وغوغل وتويتر. ونفذت حملات مشابهة ضد الصين أثناء الحرب التجارية، وفي فترة تفشي فيروس الكورونا. وهذا يتطابق مع سياسات البنتاغون الذي أعلن عن تحول في الإستراتيجية العالمية نحو «منافسة القوى الكبرى» مع روسيا والصين، قائلين: إن المنافسة الإستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيس في الأمن القومي الأمريكي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
955
آخر تعديل على الإثنين, 02 آذار/مارس 2020 13:06