أزمة «نخب» أم أزمة جماهير؟
محمد المعوش محمد المعوش

أزمة «نخب» أم أزمة جماهير؟

أخذت ظاهرة الرئيس الأمريكي الحالي ترامب الكثير من النقاش والجدل. ومن التحليلات ما هو تبسيطي وغير علمي إلى حد السخافة، خصوصاً ذلك الذي ينسب تخبّط الولايات المتحدة إلى «شخصية» و«جنون» الرئيس الأمريكي، وينحسب هذا المنطق على أغلب الدول «الإشكالية» ككوريا الشمالية مثلاً... ولهذا المنطق معانيه السياسية العامة، ولكنه أيضاً يحمل معاني تاريخية جديدة.

دور الفرد في التاريخ

هذا المنطق الفردي المحض الذي يضخّم من خصال الشخص وقدراته وكأنها هي المحرك الأساس للتاريخ، بينما تجري التعمية وتجاهل القوانين الموضوعية التي لا يمكن للفرد أن يقدر على لعب الدور الفردي الممكن خارج حركة الواقع المادية. وهو ما عالجه بشكل موسع جيورجي بليخانوف في كتابه «دور الفرد في التاريخ» على أساس حدود ممارسة الفرد التاريخية ارتباطاً بالظروف التي تشكّل أساس الدور الفردي نفسه وشروط ممارسته. فالبشر هم الذين يصنعون تاريخهم فعلاً، ولكن ضمن الشروط المادية وليس خارجها. هذه العلاقة الجدليّة بين الذاتي والموضوعي، تقول: إن الظروف تصنع الفرد، ولكنها تصنعه في كونه عنصراً فاعلاً، وليس ككائن متلق سلبي للظروف. لهذا فكلّ التحاليل التي تُعلي من شأن الفرد- وهنا مأخوذ مثال الرئيس الأمريكي الحالي- دون دراسة الشروط الموضوعية، هي مقولات تمارس التعمية عن الشروط الموضوعية.

الشروط الموضوعية التاريخية

هناك فعلاً تحليل نقيض عن ذاك الذي يعزو حالة أمريكا الراهنة إلى شخص رئيسها. التحليل البديل يقول: إن ظاهرة ترامب هي دليل على وضوح الدور الأمريكي الذي يلعب دون قفاذات ويمارس وقاحة، وذلك ناتج عن عمق الأزمة التي ضعف فيها الجانب الدبلوماسي السياسي المباشر لصالح منطق قَطاعي الطرق والنهب العلني والمافوي. ضيق الهامش هذا أمام المستويات الدبلوماسية، وغياب الحد الأدنى من أخلاقيات سياسية علنية، هو تعبير عن ضيّق الهامش السياسي نفسه. فالكذب والرياء الضمني تاريخياً صار علنياً، ولم يعد من الممكن تغطيته، كما باقي جوهر المنظومة الرأسمالية التي تعبر عن نفسها علنياً في العلوم والطب والثقافة والاقتصاد بعد محاولة التعمية المؤقتة في العقود الماضية على أساس الليبرالية. وما شخص ترامب نفسه إلا تعبير عن هذه الشروط التي سيكون على كل شخص يلعب الدور المطلوب أن يعبّر عن منظومة القيم التي تحملها المرحلة الراهنة من الصراع في العالم. بينما على النقيض مثلاً نرى أنّ الأطراف التي تواجه الممارسة الأمريكية تعبر عن أداء دبلوماسي وسياسي بعيداً عن التعنت والرعونة ونهج قاطعي الطرق. هكذا وعلى أساس شروط الصراع نفسه تنفرض آليات الممارسة السياسية والثقافية الفوقية ليس فقط في شخص رؤساء الدول، بل على مستوى «النخب» السياسية ككل. ولكن هل هذا هو الجانب الوحيد من المشهد؟

جدلية «النخب» و«الجماهير»

هذه الشروط ليست فقط إطاراً لحركة «النخب» السياسية على مستوى الجهاز الثقافي والإعلامي والسياسي للدول، بل تشكل الإطار أيضاً للوعي الجماهيري. فمن جهة هناك عقود التسطيح الليبرالي السابقة على مستوى الاستهلاك والفردانية والبعد عن الممارسة السياسية الصراعية، والتشبُّع بالمفاهيم العدمية، والموقف الانتظاري السلبي واليومي التبسيطي الحدثي، ومن جهة أخرى غياب الفكر النقيض المنظَّم والعلمي، كل ذلك ساهم في تشكل وعي هو من حيث مضمونه يلتقي وبشكل بنيوي مع خطاب رسمي غير ناضج سياسياً. وهكذا عندما أتت الأزمة في هذا النموذج الذي ساد طوال العقود الماضية لم يكن لدى الوعي الاجتماعي قاعدة ناضجة بحاجة لخطاب سياسي عميق، بل صار لزاماً على الخطاب الرسمي نفسه لكي يحاكي تراجع الوعي السياسي الاجتماعي، وبالضرورة تراجع معايير الفكر النقدي العلمي أن يكون من ذات البنية الفكرية السائدة ورموزها. لذلك فكل الكلام عن سقوط «النخب» بالمعنى المطلق هو منطق تشويهي وتضليلي، لأن هذا المنطق يؤدي للقول: إن المرحلة التاريخية الراهنة لا تسمح بممارسة سياسية علمية نقدية ناضجة. بينما الأصح القول هو أنّ ما سقط هو «النخب» التي تعكس المرحلة الماضية وهي تموت مع موته. إنّ المرحلة الراهنة كنتيجة للمرحلة الماضية هي مرحلة لا تتطلب «نخباً» بالمعنى الكلاسيكي الذي هو نفسه انعكاس تاريخي سابق لصراع سياسي ناضج، شكلّت القوى الثورية فيه معيار الممارسة البورجوازية النقيضة نفسها، فشروط الصراع الذي فرضته التجارب الثورية فرضت معايير ما سمي بالنخب، دون نكران أنّ بنية المجتمع الرأسمالي كانت لا تزال تُعبر عن رأسمال صناعي إلى حد ما، وبالتالي تعبّر عن مستوى من الواقعية النسبية، إضافة إلى انحكامها بشروط الصراع الناضجة نفسها، أما اليوم، فرأس المال الريعي نفسه سوف يشكل بالضرورة قوى في منطقها السياسي وممارستها منفصلة إلى حد ما عن الحركة الإنتاجية الفعلية، وبالتالي، تفقد إلى هذا الحد أو ذاك من معايير عقلنتها النسبية، كتمثيل لحركة الرأسمالية المأزومة في شكلها المالي الإجرامي.
وحتى نعود إلى جدلية «النخب» والجماهير، إن سقوط «النخب» هو في جوهره تراجع للصراع الطبقي الجذري على مستوى العالم في العقود الماضية، وتعبير عن الأزمة العميقة للرأسمالية وقواها الرئيسة ثانياً، وثالثاً: هو تعبير عن نتاج المرحلة الليبرالية ثقافياً واجتماعياً، والتي فرَّغت الممارسة الاجتماعية من معايير الواقعية والمنطق الجماعي الذي ساد في مرحلة سابقة. هذه هي الشروط الموضوعية لفهم ظاهرة تراجع «النخب»، وأيضاً ضرورية لفهم استعادة صناعتها، فهي اليوم يمكن رؤيتها في النماذج السياسية الصاعدة إلى حدٍّ ما، فهل هناك من يُنكر اليوم أن «نخبة» روسيا تتناقض مع الهزل الذي ساد في روسيا قبل وما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في شخص مدمن الكحول يلتسين؟ الدور الفعلي وشروط تحقيقه هي ما تفرض النموذج الفردي الذي يعكس هذه المهام، وهو ما يصنع «أبطالاً» و«نخباً» تاريخية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
926
آخر تعديل على السبت, 17 آب/أغسطس 2019 15:28