السعادة بين السائد ونقيضه
يقول الكاتب السوفييتي نيقولاي أوسترويفسكي في رواية «كيف سقينا الفولاذ؟» بما معناه: إن من هواجسه الكبرى، هو: ألّا يصل الإنسان إلى مواجهة الموت ويندم حينها على خيارات حياته وأين وظّفها، بل أن يكون راضياً عن أنه قد استغلها إلى الأقصى، على قدر ما يسمح الظرف التاريخي طبعاً. في هذا الموقف يمكن تلخيص الصراع الذي قد يخوضه أي إنسان يطرح مسألة «خطة حياته الناجحة»، في حال كان يملك رفاهية هذا السؤال. أما إذا لم تتوفر تلك الرفاهية بسبب ظروف الحياة القاهرة، فيفقد حينها هامش السؤال، وتأتي أزمته مضاعفةً، فوقتها يكون قد حرم من حق السؤال حتى، وحرم من حق التفكير ومن حق طرح المشكلة، وبقي يسعى لتأمين قوته اليومي إذا توفر ذلك.
السعادة بين السائد ونقيضه
في الحالتين، الإجابة تحمل احتمالين. الأول: الاعتبار السائد ضمن قيم الثقافة الليبرالية الفردية. أي: النجاح الفردي ضمن الواقع المتاح: الوظيفة المرموقة، رفاهية ما، عائلة، علاقة عاطفية، إمكانية السفر، العمل في مجالات متنوعة غير ثابتة، ربما الإبداع العلمي أو الفني، الابتعاد عن «مشاكل الحياة» التي «توَرِّط»، كالعمل السياسي مثلاً. أما احتمال الإجابة الثاني، هو: الإنسان كأي كائن حي يملك آلية موضوعية بنيوية لردّ أي عدوان قد يهدد وجوده. وهذا التهديد ليس جسدياً فقط، بل معنوياً. فالإنسان موضوعياً يرفض التهميش والإلغاء الجسدي والمعنوي، أي إلغاء قيمته والاعتراف بها. ومن هنا فإن رفض التهميش من جهة والسعي لتحقيق هذا الاعتراف بالقيمة من جهة أخرى هو المعيار الحقيقي للسعادة والنجاح. ولكن ذلك لا يمكن أن يمرّ إلا عبر الشروط التي تسمح به، أيّ: الظروف الاقتصادية السياسية والاجتماعية الكليّة. وهنا تنشأ تركيبة قانون «النجاح» الفعلي. هذا النجاح لا يرتبط بمقولات حزب ما، أو ترويج دعائي سياسي رخيص، أو دعوة لدعم جهة ما لذاتها. هذا القانون الخاص بالسعادة نابع من بحث طبيعة البنية النفسية والفيزيولوجية للإنسان بشكل عام، وبشروط تحقيق ضرورات هذه البنية في الظرف التاريخي والاجتماعي. إذاً الإجابة الحقيقية حول المشروع الناجح، هي: أن يكتسب الفرد دوراً موضوعياً مرتبطاً بالآخرين ويكون له أهمية بالنسبة لهم، عندها يكتسب القيمة الضرورية التي لا يمكن لأحد أن ينتزعها منه، لا رب عمل، ولا سلطة ولا جهاز دعاية سائد ولا مؤسسة تعليمية، ولا وظيفة هشة، ولا معايير جمالية خارجية...
الصراع والتغيير كطريق للسعادة
«النجاح» إذاً: يرتبط بالضرورة وبعمق بالصراع الاجتماعي القائم. فأن يكون للفرد دور ضروري نسبة للآخرين يخضع لظروف حاجات هؤلاء، والشروط التي يمكن لهذه الحاجات تحصيلها. وهي اليوم البنية الرأسمالية المسيطرة التي تمنع إشباع حاجات الشعوب، وتدمرهم وتهمّشهم. هكذا تصبح طريق السعادة والنجاح مساوية للصراع. وهذا ليس سلوكاً «طهرانياً» أو «مازوشياً» (رغبة تعذيب الذات)، بل هو قانون الأمور واقعياً. هذا ما تكلم عنه ماركس حول التغريب وكسره، ولكنه اليوم يشكّل جوهر الدعاية في يد الرأسمالية، التي لا تزال تروج لمعايير النجاح، وتكبح وتعمم الوهم حول طرحها الفردي أو الإنسانوي العام. وكسر هذا التصور لا يصب فقط في إنجاح عملية التغيير، بل يرسم أفق النموذج القادم وما يعبّر عنه من قيم ثقافية وطروحات حول الأدوار وممارستها. وهذا ما سينقل المفهوم السائد العام عن الاشتراكية من كونها طريقاً للرفاهية المادية فقط، إلى كونها طريقاً للسعادة الوجودية الممارسية في شكلها اليومي، إذا أردنا استعارة مقولات غرامشي عن التحديد المباشر اليومي للنموذج النظري والسياسي العام وقيمه.
ماذا عن الإجابة الأولى السائدة؟
بالرغم من أن الإجابة الأولى عن نموذج السعادة الليبرالي منغلقة بحكم انهيار الواقع الاجتماعي لكثير من البلدان، ولكنها لا زالت هذه الإجابة هي النموذج السائد في أذهان الأفراد الذين يريدون، إما ترك مجتمعاتهم المنهارة للبحث عن السعادة المنشودة خارجها، أو يطمحون للتغيير، ولكنّ في أذهانهم نموذجاً مشوشاً وعائِماً وغير واضح حول النتيجة المرجوّة، والتي تكون متأثرة غالباً بالنموذج الليبرالي للسعادة. ولنفترض أن بشراً معيّنين قد سلكوا هذا الطريق الفردي للسعادة، وقدروا على تحقيق شروطه، فهل وصلوا إليها؟ إن أمراض المجتمع الغربي الذي شهد حداً من الرفاهية والنمو سابقاً هي شاهد واضح على الفراغ والبرودة التي تعيشها شعوب تلك البلاد. بل إنّ العيش في تلك الفقاعة طوال العقود الماضية حولتهم إلى كائنات هشة ستصطدم وهي تصطدم بالواقع الحقيقي بشكل حاد. ومن تمكّن من شعوب الدول التابعة من «الهروب» هو يعيش تناقضاته الخاصة النابعة من تناقض الخيار الليبرالي نفسه. فالليبرالية تفترض تقديراً مبالغاً في الذات دون حساب للشروط الموضوعية، وتضعها في تنافس وعدائية مع المجتمع والواقع، ومع العمل السياسي التغييري. وهنا يصبح متبني هذا الخيار الفردي معادياً لنفسه وللآخرين، فهو في سعيه للاعتراف من قبل الآخرين، هو في ذات الوقت يعاديهم وينافسهم. وما من مخرج من هذه الدوامة القاتلة، وهؤلاء أنفسهم يعبرون عن مدى عدم الرضا والضيق والعبثية التي يعيشونها دون مخرج. يا لمأساتهم «الناجحة».
إن مواجهة التخريب الذي قامت به الليبرالية على مدى عقود ولا تزال، والذي ستبقى تبعاته مستقبلاً، تتطلب أن نقدّم على قدر المستطاع النموذج النقيض للسعادة وأساساته الاقتصادية السياسية. فالسعادة لن تكون خارج مواجهة الحقيقة/ الأزمة، فحسب هيغل: إن اكتساب القوة (أو السعادة) لا يتم عبر إغلاق العين عن السلبي (الأزمة)، بل عبر النظر مباشرة في وجه السّلبي والتعامل معه. عندها فقط يتحول السلبي إلى وجود.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 919