نحو قطب علمي صاعد جديد؟
العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على الدول والشركات لا تُنهي فقط مقولات «حرية السوق» الليبرالية، لتعكس بذلك الجوهر الاحتكاري الممنوع المس به، بل هي أيضاً تُنهي عملياً مقولات حِياد العلم ومؤسساته، لتعكس بذلك انحيازه المؤسسي الوظيفي، وخضوعه لسطوة رأس المال العالمي. الإمبريالية في خطواتها المأزومة تلك تساعدنا على تخطي الكثير من النقاشات، لنظهر هذه العلاقات التي تكون غالباً مخفية تحت زيف الدعاية الإيديولوجية والتعقيد المؤسساتي والتمويلي. وفي هذه المادة سنركزّ على احتكار المجال التكنولوجي العلمي، والعقوبات الأخيرة على عملاق التكنولوجيا الصينية «هواوي».
قطبان أساسيان للتقييم العلمي
في المجال التكنولوجي عالمياً، هناك مؤسستان تحتكران إلى حد ما مجال البحث والنشر وتنظيم المؤتمرات، وبالتالي تقييمها ومراجعة البحوث والبت بالقبول بها من عدمه. هذه الوضعية تجعل كل من يريد أن يبرز في مجال التكنولوجيا على المستوى الأكاديمي أن يكتسب شرعيته من هاتين المؤسستين. وبالفعل إذا كان مؤتمر أو مجلة ما في أية دولة في العالم تريد أن تظهر أن لها اعترافاً عالمياً ما.. فهي تضع في تعريفها: أنها محكمة من قبل هاتين المؤسستين العالمتين. المؤسستان هما: معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات، والمعروف بالاختصار الشهير (IEEE)، التي تأسس عام 1963، مركزه الولايات المتحدة الأمريكية (نيويورك، ونيوجيرسي). لديه أكثر من 430 ألف عضو حول العالم، في أكثر من 160 دولة. وهو يصدر أكثر من ثلث المنشورات العلمية في مجال الحواسيب وعلوم الكهرباء والإلكترونيات والتكنولوجيا الذكية. وتتضمن قاعدة بياناته على الشبكة حوالي الـ 5 مليون ورقة علمية. لديه أيضاً أكثر من 100 مجلة محكمة ويرعى أكثر من 1800 مؤتمر حول العالم. هذا يجعله حسب تعريف الناطقين باسمه «أكبر منظمة عالمية متخصصة تقنياً في مجال التقدم التكنولوجي». أما المؤسسة الأخرى فهي منظمة آليات الحوسبة المعروفة اختصاراً بـ (ACM) ومركزها أيضاً الولايات المتحدة الأمريكية (نيويورك) وتأسست عام 1947. وتعرف كذلك حسب الناطقين باسمها كأكبر جمعية علمية أكاديمية دولية في مجال الحوسبة. هي أيضاً ترعى العديد من المؤتمرات العالمية، ولديها أكثر من 50 مجلة محكمة، وتضم حوالي الـ100 ألف عضو. والشريك الأساس حسب إداريي ACM هي طبعاً IEEE التي تقوم بينهما شراكة تنظيم وإدارة المؤتمرات عالمياً.
الوضع الاحتكاري على ضوء العقوبات
بعد العقوبات الأمريكية الأخيرة على الشركة الصينية «هواوي» صدرت مذكرات من الـ IEEE كان لها صدى كبير في المجال الأكاديمي والتكنولوجي الصيني في الأيام الماضية. حيث أصدرت الـ IEEE مذكرة غير علنية تم إرسالها عبر البريد الإلكتروني للباحثين، وتتضمن استبعاد جميع الباحثين المنتمين لأحد مراكز بحث الشركة الصينية «هواوي». وذلك من خلال إيقاف مشاركتهم في مراجعة وتحكيم الأوراق العلمية، وتتضمن المراسلات «السرية» بسحب أية ورقة كانت قد أرسلت أساساً للمراجعة إلى أحد باحثي الشركة الصينية، واستبداله بآخر. هذا القرار يتعارض وبقوة مع علاقة الشراكة البحثية العلمية التي تربط «هواوي» بالـ IEEE حيث تم توقيع العديد من الاتفاقات في مجال المدن الذكية ونقل الطاقة في عدة مناسبات، كالمؤتمر المشترك في باريس (فرنسا) وفي شنجن (الصينية). والتي من خلالها تُقدم هواوي مثلاً مختبرها المفتوح وبناه التحتية والبرمجية للشركاء.
ردود أفعال واحتمالات كسر الاحتكار الأكاديمي- العلمي
يبدو أن هكذا خطوة لم تظهر فقط قدرة «هواوي» على تخطي الاحتكار التكنولوجي، كالقطع ونظام التشغيل التي أعلنت «هواوي» عن بدائل لذلك، بل هي نقلت المعركة إلى المجال العلمي الأكاديمي. حيث قال مثلاً الباحث في جامعة تسينخوا (من الجامعات الأهم في الصين والعالم) «ليو جي يوان»: إن استمرار المواجهة وانتقالها إلى الحقل العلمي الأكاديمي سيعني ضرورة تأسيس منظمات ومجلات ومؤتمرات ومعايير علمية موازية، مقابل تلك التي تحتكرها IEEE. أما «شين ييرا» البروفيسور في جامعة «ديوك» (الأصل في الولايات المتحدة ولديها فرعان في سنغافورة والصين)، فَعَبّر عن رأي مماثل، وقال: إن الوقت قد حان لكي تبدأ الدول الأوراسية بتأسيس بدائل خاصة بها عن IEEE وACM. بينما قال متابعون على الشبكة: إن ما حصل «سيذكره التاريخ كنقطة سوداء، خصوصاً أن هكذا منظمات تعلن نفسها عالمية، وها هي تعلن عن حدودها في بلد واحد، هو: الولايات المتحدة الأمريكية». بينما اقترح «جوو جيخوا» من جامعة «نانجينغ» (الصين): إن الخبراء على كل المستويات في الـ IEEE يجب أن يقترحو نقل تسجيلها من الولايات المتحدة إلى سويسرا كونها أساساً منظمة عالمية، ولا يمكن اعتبارها مملوكة للولايات المتحدة. بينما أصدرت المنظمة الفيدرالية الصينية للاتصالات CCF بياناً حول «السلوك غير اللائق للـ IEEE» إنها أسفت لهذه الخطوة كونها تتعارض أساساً مع المهمة المعلنة للمنظمة الدولية IEEE وتتعارض أيضاً مع حرية العلم ودوره في خدمة الإنسانية ككل. وكإجراء مقابل فإن الـCCF ستنصح أعضاءها بعدم إرسال أية ورقة إلى جمعية الاتصالات ComSoc التي ترعاها IEEE ، وعدم المساهمة بأي عمل أو مؤتمر ترعاه هذه الجمعية.
إن قضية «هواوي»، من حيث هي شركة عملاقة صارت منافسة عالمياً للشركات العابرة، هي صراع ضد منطق الاحتكار الإمبريالي، وتفتح الباب جديّاً أمام تأسيس قطب علمي جديد غير تابع للمركز الإمبريالي، وما الآراء التي ذُكرت أعلاه إلا اتجاهاً واعياً في هذا المسار. ودُول كالصين وروسيا اليوم لا ينقصها شيء من حيث البنية التحتية والكادر البشري والقرار الواعي التمويلي، والدافع التاريخي والعملي، لكي تؤسسا هكذا مركز علمي عالمي منافس.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 916