السياق التاريخي للتبعية
يعزو الباحثون أسباب التبعية إلى اختلال التوازن السياسي بين طرفين، أحدهما متفوق على الآخر.
وعلى ذلك فهي تنطلق من أساس ارتضاء تقديم خدمات التبعية من الطرف الضعيف إلى القوي، بما يعنيه ذلك أن منطلقها سياسيٌّ، حاملُه القوى السياسية المسيطرة في المجتمع، التي تسهل أغراض اختراقه في شتى المجالات. والطرف المتبوع علاوةً على تفوقه السياسي متفوق اقتصادياً واجتماعياً، غير أن ذلك لا يعني بالضرورة تفوقه الحضاري!
نلقي في مقالنا اليوم بعض الضوء على نشوء التبعية في المنطقة:
ـ1ـ
يجد الباحثون: أن تبعية المجتمعات في منطقتنا دخيلة عليها، وليست أصيلةً فيها؛ إذ إن الحاجات الحضارية الفكرية الاجتماعية السياسية في فترة نهوض الحضارة العربية الإسلامية، فرضت نفسها لجهة الانصهار الأفقي المتعاقب لنتاج الحضارات السابقة، والمحيطة مع نتاج الحضارة العربية الإسلامية الآخذة بالتشكل، والتي ظلَّت شأنها شأن أي حضارة إنسانية على صلة (بمحيطها الحضاري)، ليظهر هذا الانصهار متبلوراً أخيراً بوجهه العربي الإسلامي الأكثر تطوراً في تلك الفترة التاريخية. إضافةً إلى أن الإسلام كونه عقداً سياسياً اجتماعياً، فإنه اتخذ شكله الديني بشريعة التوحيد التي استند عليها الخليفة بحكمه الأوحد، الذي قام في أحد أركانه على تكفير تقديم العون (للغريب) بمعناه السيادي السياسي، والغريب هنا هو الغرب. وترسخ ذلك في الوعي الإجتماعي، إلى جانب كونه موروثاً إجتماعياً قبلياً في العصور السابقة على الإسلام.
إن ما سبق يُظهر أنه ليس للتبعية أصالة في تاريخ المنطقة خلال العصر العربي الإسلامي وقبله، بما يناقض الدعاية الرائجة اليوم.
ـ2ـ
في الأزمنة التي بدأت فيها سلطة الخليفة العباسي بالتضعضع، بما تعنيه من تحول سلطة الدولة الواحدة فيها إلى سلطة شكلية تنضوي في ظلها دويلات عديدة، تخلخل مفهوم التكفير السابق في التعامل مع الغريب، لتحل محله مع ضعف الدولة الإسلامية إمكانيةُ التعامل المهني دون التكفير الديني- حدث هذا في الأندلس على سبيل المثال.
غير أنّ هذا التعامل لم يرقَ إلى مستوى تشكيل ظاهرة التبعية السياسية؛ إذ ظلت عوامل التفوق الحضاري الفكري والاقتصادي العربي الإسلامي- على الغرب الآخذ بالصعود- حاجزاً صدَّ تشكيل هذه الظاهرة حتى ذلك الحين.
ـ3ـ
مع التدهور المطَّرد للقوى المنتجة، وتراجع الاقتصاد، وضعف التجارة التي أصبحت في أدنى مستوياتها خلال السيطرة العثمانية الإقطاعية العسكرية المتخلفة، والتي مثَّلت فترة الانقطاع عن سياق التطور الحضاري في المنطقة، انحط الفكر هذه المرة إلى السلفية التكفيرية السياسية المتخلفة. وتحصنت مرة أخرى خلفها السلطة الحاكمة لحماية نفسها داخلياً، وتحريم التعامل خارجياً. في حين تطورت. أوروبا بشكل مطرد في الاقتصاد والتجارة والعلوم .وألقى ذلك التطور أثره العميق على المجتمع الأوروبي، وصولاً إلى الثورة الصناعية التي أرست نمط الإنتاج الرأسمالي.
ومن الطبيعي أن الاختلاف بين نمطين اقتصاديين، سيقود إلى الصراع بين القوى التقليدية (إقطاعية تركية متخلفة- إقطاعية محلية- برجوزاية ناشئة..) في النمط الاقتصادي المتأخر، والقوى الجديدة البرجوازية الصناعية في النمط الاقتصادي المتطور، والتي تنزع إلى فرض نفسها، وتثبيت قواعد انتشار لها (تبدأ غالباً بالتجارة) داخل مناطق سيطرة النمط المتأخر، والذي على الرغم من تخلفه، فإن التبعية لم تجد فيه تربتها.
ـ4ـ
لكن الصراع سيُحسم لصالح القوى الغربية الرأسمالية المتفوقة إيديولوجياً وإنتاجياً، وكان لنصرها أن يترجم نفسه بالعمل المباشر أو الخفي على زعزعة والقضاء على القاعدة التي تستند إليها القوى التقليدية في مقاومتها للمستعمر، عن طريق خلخلة النمط السائد اقتصادياً في منطقتنا المستهدفة، وبدأ بتقسيمها وإحداث تغيير طبقي جديد فيها، وهيكلة اقتصادها بالشكل الذي يخدم مصالحه، والهجوم المؤدلج على إيديولوجيات القوى السائدة في المنطقة، والذي يأخذ الهجوم على التراث فيه أحد وجوهه الأساسية لضرورة القطع مع الجذور الاجتماعية القادرة على دفع عجلة الحركة التاريخية من جديد في بلدان المنطقة.
إذ لا يمكن للتأثير الخارجي أن يبلغ أثره العميق المطلوب في المستعمَرات دون عوامل تعقد الصلة بين الخارج والبنية الداخلية المشكّلة للمجتمعات المستعمَرة. ولا بدَّ- لتحقيق الأثر المطلوب- من العمل على إحداث تقارب بين الظروف الاجتماعية الحياتية بما يتضمنه من جوانب فكرية بين البلدين، وبما يحقق الأثر المتبادل بينهما. وإلّا فإن وجود القوى المستعمِرة سيكون عابراً في المستعمرات، ولا يعدو كونه فترة تقطيع زمني لحضارةٍ مستمرة في المنطقة.
ـ5ـ
إن الظروف السياسية الاقتصادية الاجتماعية لا يمكن أن تتشابه بين هذين الطرفين المتصارعين في جميع المستويات العلمية والطبقية وعلاقات الإنتاج، نظراً لموقع كل منهما في عملية الإنتاج المادي العالمي، من حيث توزيع الأدوار للطرف الأول: المركزي الناهب، والثاني: التابع الطرفي المنهوب. فقد عمل الغرب على إحداث التغيير الاجتماعي المطلوب في بلادنا مع تغلغله الاقتصادي بإحلال نمط إنتاج تابع (إقطاع عصري- اقتصاد برجوزاي تابع أو كولونيالي) محل نمط الإنتاج التقليدي الأصيل المتعاقب في تطوره. ويخلق نمط الإنتاج التابع هذا طبقته التابعة غير المستقلة، لكنه يمنحها موقع السيادة بين طبقات المجتمع، لتعمل على تجذير نفسها في المجتمع، وبما ينتج عنه من إعادة هيكلة الطبقات في المجتمع، فتأخذ شكلاً عصرياً لكنه غير منتج، مما يحد من النزوع الطبيعي لشعوب المنطقة إلى الاستقلال والمقاومة والتطور المستقل بعواملها الذاتية.
ـ6ـ
يمكن أن نخلص إلى أسباب إحلال الليبرالية في المنطقة خلال العقود الأخيرة، فقد كان مطلوباً- بالقوة المباشرة مرات، والناعمة مرات أخرى- اقتلاعُ الجذور الاقتصادية الاجتماعية والسياسية التاريخية للمجتمعات، وإحلالُ ظروفٍ إجتماعية تُشَابه، ولا تُطَابِق الظروف الاجتماعية في الغرب، وبشكلٍ يحفظ له التفوق على حساب بلدان المنطقة وشعوبها التي أُلحِقت به.
وإذا كان لنا أن نخلص كذلك في الختام إلى كون التبعية لا تجد جذورها الأصيلة في تاريخ المنطقة، وإنما هي ظاهرة مستحدثة ترتبط بالقوى السياسية المسيطرة في المنطقة، والتابعة للمركز الإمبريالي، فإن الليبرالية كنهجٍ اقتصادي سياسي اجتماعي تمثل الشكل الفاقع للتبعية السياسية مع القوى المركزية في الغرب، وهي إذاً لا تجد حاملها التاريخي في المنطقة. وإذا كان الغرب يعيش إرهاصات تراجع مركزيته، فإن الليبرالية بقواها السياسية التابعة ربما تلفظ أنفاسها قريباً. وهو ما نتلمس إثباتاته في الأحداث التي تعصف اليوم في منطقتنا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 913