محاولة للتخيّل في نقد الاغتراب
إحدى طرق التهكم والنقد تجاه الواقع المأساوي، والتي يمكن ملاحظتها مؤخراً على شبكات التواصل الاجتماعي والمستخدمة أيضاً في الأحاديث اليومية غالباً، هي إظهار حالة قضية ما (مدينة، مشروع، منطقة سكنية، مساحات مائية أو برية) على غير ما هي عليه في الواقع. أي: أن الصورة (أو الشرح) المعلنة عن القضية تظهرها كما يتمناها صاحب الصورة، لإظهار الفرق الشاسع بين الرغبة والواقع المعاش.
وغالباً تستخدم مثل هذه الصور، لنقد ممارسة السلطة السياسية عن الملفات المقصودة، مثل: أن يتم إظهار منطقة طبيعية مليئة بالأنهار والغابات أو لأحد الشواطئ ذات الرمال الذهبية، مأخوذة من أية منطقة من العالم، في وجه تدمير معالم الطبيعة في بلادنا، بالتشوه العمراني والنفايات وغيرها.
أهمية هذه الطريقة أنها باستخدامها الصور، تتخطى طريقة إظهار الظاهرة كما هي في بشاعتها، والتي لم يعد من الممكن إخفاؤها في ظل حدة الانهيار الذي تشهده مختلف القطاعات، بل هي تضعها جنباً إلى جنب مع نقيضها الذي كان يمكن أن يكون لولا الإخفاق في النموذج الاقتصادي السياسي المتّبع. وهذا ما قد يحفز الوعي أكثر لناحية ربط الأزمة والمعاناة والنقمة مع هدف واقعي يظهر جمال البديل ومدى بشاعة الواقع.
صعوبة الخيال أمام تعقّد الظواهر
هذه الطريقة سهلة نسبياً عندما يكون نقدها لظواهر ملموسة مباشرة كالتنظيم المدني أو الدمار البيئي أو حتى لظواهر اجتماعية أعقد مثل مظاهر الفقر وحياة الفقراء اليومية... إذ توضع صور الواقع المشوّه، أمام صور البدائل الممكنة من أماكن مختلفة من العالم: كالمدن المنظمة والبيئة المحمية والأطفال وافري الصحة يلعبون ويتعلمون بحيوية مقابل صور هزال أطفال فقراء العالم الآخر.
ولكن هذه الطريقة التي تعتمد المفارقة، وتحريض الخيال لتوضيح أن البدائل ممكنة... تصبح صعبة الاعتماد في نقد ظواهر أخرى أكثر تعقيداً.
فمثلاً إذا أردنا أن نظهر مدى تشوّه الواقع، في ظواهر التشبّه بالغرب، أو ما يسمّى التغريب الاجتماعي، وخسارة المجتمعات المحلية لخصائصها.. لن يكون الأمر سهلاً.
فأولاً: ما الصورة التي سنضعها للبديل؟ لا يوجد نقيض لنمط التغريب الاجتماعي، او نماذج اجتماعية قائمة يمكن إظهارها لكي تكون التجسيد المطلوب للبديل. وثانياً: لأن ظاهرة التغريب، على الرغم من كونها تشكل مركزاً أساسياً للمعاناة الحياتية الراهنة، من جهة هي بحاجة لمجهود في ربطها مع النمط الاقتصادي القائم، ولكون المتخيّل البديل غير واضح لوعي الناس، كون البديل عن التغريب لا زال تتم تغذيته بالمعاني والصور الليبرالية (كجزءٍ من الحرب على الوعي)، ومن جهة أخرى هناك صعوبة للوعي في وعي الاغتراب نفسه في غالب الأوقات، فالإحساس بالمعاناة الرافضة لنمط الحياة الراهن الفاقد للمعنى يحضر ويغيب بشكل متواتر، ويتم السعي لإشباعه ضمن نظام العلاقات السائد نفسه، المحصور بالدور المهمش وغالباً المرتبط بالعمل المأجور، أو التعطل عن العمل كذلك، خصوصاً في ظل الأزمة والانهيار الاجتماعي الذي تعيشه أغلب البلدان.
أمثلة عن نواة بديلة
الكثير من النماذج قدمتها التجارب الاشتراكية للأدوار الجديدة للإنسان في المجتمع المتحرر من الاستغلال، في صيرورته إنساناً مبدعاً لتقدم المجتمع ككل، كالفن والعلوم والعمل اليومي والسياسي. مثال الحركة التطوعية التي اشترك فيها المواطنون للإسهام في نهضة الميدان الصناعي أو العمراني. ويمكن أن نجد هكذا نماذج خارج التجرب الاشتراكية، كالأفراد الذين يعملون في قطاعات ترتبط مباشرة بقيم إنسانية عامة ومعانٍ تقدمية تاريخية، كالفاعلين في ميدان التغيير الجذري أو في ميادين علمية أو عملية إنسانية. ولكن هؤلاء يبقى جزء من حياتهم فقط كالجزر المضيئة في المحيط المظلم للرأسمالية الاستغلالي.
محاولة للتخيّل
أما إذا أردنا أن نطلق المخيلة، والتي لا زالت تفتقر للصور، أو حتى النماذج المصورة مسرحياً أو سينمائياً مثلاً، واستناداً إلى خطوط عامة عن نمط حياة يصارع الاغتراب في بنائه المجتمع الخالي من الاستغلال، قد ينهض الإنسان من فراشه صباحاً وقد تغيرت لديه أسباب نهوضه للقاء نهاره، فهدف حياته قد تغير كلياً. إنه الآن قد تلمّس دوره ومعنى وجوده وقيمته في المجتمع الجديد. تغيّر الهدف سيغيّر مجمل الأهداف الباقية، فتسقط بالضرورة الرغبات الحالية السطحية في تعويض الفراغ، كأساليب اللهو الاستهلاكية، أو قتل الوقت للهروب من الروتين اليومي القاتل، أو اختلاق معانٍ لملء غياب المعنى. وتصير الممارسات اليومية في خدمة الهدف الجديد، وتكتسب الممارسة طاقة كبيرة، عكس الكسل الراهن.
في نهاره لن يكون كارهاً لما يقوم به، كعمله الذي يعيشه كشيء غريب عنه، بل سيتحول عمله إلى ضرورة كما قال ماركس. فوجوده الإنساني أصبح مرتبطاً بدوره، ليس كما هو العمل الآن، ممتصاً لحياة وعمر الإنسان. ولن يكون عمله محدوداً أو مغلقاً في مهام روتينية آلية، فالكثير من العمل الجسدي ستقوم به الآلة (المطاعم المؤتمتة، وخدمات الغسيل، الزراعة، النظافة). والباقي قد يتحول إلى عمل تطوعي للمجتمع ككل، وسيكون لمهام المساهمة في تطوير وبناء المجتمع المساحة الأكبر من الوقت، وسيقوم بأدوار مختلفة كونه قد تهيأ معرفياً، وسيتنقل خلال نهاره في غنى حياته وحركتها، والتخصص ضيّق الأفق حالياً سيصبح في خدمة الممارسة الأوسع، والترفيه سيتغير معناه، فالحياة ذاتها تصير شكلاً من الترفيه والاحتفالية الإنسانية اليومية.
لا بد لمحاولة التخيل أن تتبلور أكثر، فهي محاولة تجسيد الرغبة الدفينة للإنسان المُغترب.