الأجيال المتروكة وما بعد الحل
في المقال السابق كنا قد ذكرنا أن وعي الإنسان يتشكل خلال ثلاث مراحل عمرية وهي: الطفولة، والمراهقة، ومرحلة النضج. وأن الطفولة هي المرحلة التي تؤسس للمراحل اللاحقة، لأن في الطفولة نبدأ بالتعرف على المحيط، وآليات عمله، ونبدأ بتكوين المعاني عن المحيط والحياة. وهذه المعاني ليست ثابتة، فهي تتغير مع قدرة الإنسان على الحركة وعلى توسيع دائرة التعاطي اليومي فيها، فباتساع المحيط والقدرة على الحركة والاستقلالية المتدرجة نتعرف أكثر على الحياة ونكتسب معانيَ جديدة، وتتغير المعاني الموجودة صلاً.
أمّا مرحلة المراهقة، فهي الأقل ثباتاً من حيث إطارها ومدى حركتها والتوسع في محيطها. وبما أنها مرحلة الانتقال من طفل يملك سيطرة محدودة جداً في حياته إلى شخص يملك سيطرة أكبر مع ضوابط عديدة، ومع تغيرات بيولوجية للجسم البشري تتسم هذه المرحلة بالتعقيد.
الهوية والتطور العقلي
ما يميز مرحلة المراهقة هو بناء الشخصية في العامّ، فيما تحمله من الهوية الجنسية والهوية الذاتية، والهوية النفسية للفرد. بالطبع إن هذه الشخصية تحمل رواسب المرحلة التي سبقتها ولكنها تتركز أكثر في هذه المرحلة. وهنا يختلف هذا البناء بين المجتمعات وفي داخل المجتمع، بين طرق التربية والتعامل مع المراهقين والمستوى الطبقي والاجتماعي. كما يختلف هذا مع تقدم الوقت والتغير في أسلوب الحياة ودخول عناصر جديدة لتؤثر على بناء الشخصية. بالنسبة إلى فيغوتسكي، يجب اعتبار مرحلة المراهقة تابعة لمرحلة الطفولة ولكنها في مرحلة متقدمة فكرية عنها. هذه من الأمور الحياتية البسيطة أن المراهق يستطيع حل معضلات أكثر تعقيداً من الطفل، وتسمح له بيئته وتطوره العقلي بالتطور العاطفي والعقلي. وأحد التأثيرات على هذا التطور، هو: التغير البيولوجي الذي يبدأ في هذه المرحلة، مما يضع المراهق في موقع أعقد اجتماعياً من الطفل. وبالتالي ينقل اهتمامه من اللعب والعلاقة مع الأهل، إلى العلاقة مع الجنس الآخر وضرورة جذب الاهتمام من الجنس الآخر. ومن خلال هذا التعرف على الهوية الجنسية واكتشافها، والتوسع في المحيط وبالتالي التوسع في المعاني والمهام، تتمكن الشخصية من البناء على أساس ما كان موجوداً وعلى أساس ما أُضيف إلى هذا الوجود.
كثرة المنبهات
يختلف عصرنا الحالي عن الذي سبق في كثرة المنبهات التي تؤثر في بناء شخصية المراهق. وتختلف المنبهات من إطار اجتماعي عن إطار اجتماعي آخر. ويحتل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أحد أبرز هذه المنبهات، بعدما أصبحت بحكم الموجود في يوميات الأفراد. فماذا تعكس هذه المنبهات؟
الإيجابي: إنها تعكس توسعاً في الإطار الاجتماعي والمعلوماتي للمراهقين، فالمعلومات التي لم يكن الوصول إليها بسهولة قبل الإنترنت أصبح الوصول إليها أسهل اليوم، وهذا مع الاختلاف في القدرة إلى هذا الوصول. الشيء الذي يشكل عنصراً سلبياً، في أيّ من هذه المعلومات يجب أن تصل إلى المراهقين، وأيّها لا يجب أن تصل إليهم، ليس فقط في المعلومات الخاطئة، أيضاً في تلك التي تؤدي إلى هروب المراهقين من أزمهتم في تحديد هويتهم إلى أماكن أخرى، مثل: الإدمان أو التطرف في هذه الهوية.
ينطبق هذا أيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي، فهي من ناحية إطار تفاعلي مع شريحة أكبر من تلك اليومية. وهي إطار يمكن أن يعكس اتجاه تطور هوية وشخصية المراهقين، في كيفية استخدامها وما تمثل بالنسبة لهم. وهنا تلعب عدة عوامل دوراً في تحديد اتجاه هذا الاستخدام. منها: التربية ومدى تواصل الأهل مع المراهقين، هل تؤمن البيئة الداخلية للعائلة الإطار السليم لهذه المرحلة الانتقالية أم أنها تدفع بهم إلى اللجوء إلى أطر أخرى للتعبير؟ وهل لدى المراهقين طر اجتماعية ويومية تساعدهم باختبار المعاني والأطر الجديدة؟ أم أنها محدودة، لهذا يلجؤون إلى مواقع التواصل الاجتماعي، إما للتعبير أو للاحتماء بها. هذه العوامل لا تنفصل عن الواقع والتركيبة الاجتماعية الموجودة، فطرق التربية ومدى قدرة المراهقين على الحركة خارج الإطار الطفولي مرتبطة بمدى وجود قدرة الوصول إلى هذه الأطر، مثل: الرياضة، والموسيقى، والهوايات في الإجمال. وفي حال عدم وجود القدرة على هذا الوصول، إما لعدم وجودها أساساً، أو بسبب الوضع المادي، سيلجأ المراهقون إلى أطر أخرى للاكتشاف والظهور، أبرز هذه الأطر، هي: مواقع التواصل الاجتماعي.
واقع الحرب
كل هذا يختلف في واقع الحرب، الأطر أضيق بكثير، والخطر الوجودي في أعلى مستوياته. فالحاجة الآنية في هذه المرحلة تختلف عمّا هي في أية مرحلة أخرى. وما لا يمكن لنا أن ننتبه له في مرحلة المراهقة، مثل: ردة فعل المراهقين على أية ظاهرة، ومدى تطور إدراكهم وتوسع معانيهم، يمكننا أن نلاحظه في المرحلة اللاحقة للإنسان، وهي التأخر في مرحلة النضج. تفرض الحرب عدة أمور، الأول: عدم قدرة المراهقين عيش الفترة بطبيعية، محدودية العلاقات، وبالتالي محدودية الاكتشافات. وعدم القدرة على عكس أو إظهار الذات، لأن الأزمة الأهم هي أزمة الوجود القريبة وليست البعيدة، وهذا يؤدي إلى خلل في مرحلة النضج لأن الواقع سيفرض الزواج المبكر، لكون الزواج أحد سبل البقاء في مجتمعاتنا، عندها لا تعاش مرحلة المراهقة، وبالتالي لا يتم الانتقال الطبيعي من مرحلة إلى أخرى، بل بالقطع مع مرحلة والذهاب إلى أخرى.
الموضوع معقد في تفاصيله، وكل مرحلة بِنَاءٍ تحتاج إلى رؤية التعقيدات، للقدرة على حلها. يحتاج المراهقون كما تحتاج المراحل العمرية الأخرى، إلى تأمين فترة انتقالية سليمة لهم، والتي إلى الآن تحمل تشوهات كثيرة، ومعالجتها من ضمن معالجة أزمة