المواجهة الثقافية كعملية تغيير جذري
إن أي نظام اجتماعي لكي يسود لا بد وأن ينتج صورة عن العالم تتلاءَم مع علاقاته الفعلية، وتؤسس لهكذا نظام على مستوى الوعي ومجمل الميدان الثقافي، بما هو مجموع القيم والمعايير و(الخطة) الحياتية المتضمنة للأدوار الفردية والجماعية، أي: يؤسس أيديولوجيته الخاصة. لهذا فإن الأيديولوجية لا تنتج مرة وإلى الأبد، ولكنها تتحول مع تبدل شروط الواقع المادي الذي تعمل على خدمته وإرساء وجوده. لهذا كانت الليبرالية الفردية الطافحة بـ «الحرية» و«السعي للسعادة» هي ثقافة الرأسمالية منذ منتصف القرن الماضي
بعد اقتحام القوى المتضررة (حيث قدرت) مسرح التاريخ، كان لا بد من تعطيلها وهي على هذا المسرح بالذات، فالإبادة الجماعية والإلغاء الفعلي للقوى الاجتماعية الثائرة كلها ليست موضوعياً نسبة لرأس المال وتتعارض مع وجوده نفسه، فكان ضرب القوى الثورية مترافقاً مع التنازل أو التسوية التاريخية لرأس المال، وكانت الليبرالية أداة الاستيعاب للجماهير لتعبر عن تحول الأيديولوجيا الرسمية للرأسمالية عن التزمت العلني في مراحلها الأولى تجاه القوى الشعبية.
أداة هجوم وقمع
هذا التحول الذي يبدو وكأنه دفاعي تجاه الموجة الثورية الأولى، هو هجومي بامتياز، حيث نقل نسبة من القمع الطبقي إلى شكلٍ أعقد و«أنعم». فالتحول في نمط الحياة فرض ظهوراً لحاجات جديدة لا يمكن للتنظيم الرأسمالي للحياة أن يُشبعها، وهي التحقق الذاتي والبحث عن قيمة الفرد ومعنى حياته ورفض ما يلغيهما. فكانت الليبرالية تعبيراً عن الحاجات الجديدة المعنوية منها، دون تحقيقها الفعلي، بل إشاعة الوهم بذلك، فصار القمع طويل الأجل يحقق هدفه على مدى العمر الزمني للفرد. أما في الجوهر السياسي للقمع، يعبر نمط الحياة الليبرالي انطلاقاً من مفهومه لـ «السعادة» عن رفض فكرة الصراع الطبقي السياسي، وأنه مهلكة للأفراد الذين سيحرقون حياتهم فيه، بل العيش «بهدوء» بعيداً عن الأحزاب الثورية خاصة ليستغلوا حياتهم بشيءٍ خاصٍ فردي «منتج». مستوى قمع الحاجات النابع من استحالة إشباعها ضمن الواقع المغرّب الرأسمالي نفسه، متكاملاً مع مستوى مشروع السعادة الفردية ضد «أذيّة العمل السياسي الحزبي» وإبعاد القوى المضطهدة عن الصراع، هما نقطتا الارتكاز الممارستان لليبرالية لتثبيت القائم.
عجز الرفض السلبي عن المواجهة
على هذا الأساس تستمد الثقافة الليبرالية طاقتها الدافعة من الواقع وحاجات الأفراد، وتعميمها الوهم بإمكانية التحقق ضمن الواقع الرأسمالي التهميشي نفسه، من أبسط الأمور العاطفية الفردية وصولاً إلى إنتاج إنساني علمي أو فني أو اجتماعي. لهذا مثلاً: عبر الشيوعيون المجريون خاصة في كتاباتهم عن عدم كفاية المواجهة الثقافية السلبية، والمقصود فيها منع القوى الاجتماعية عن «التعرض» للمنتج الثقافي الرأسمالي، بينما المطلوب هو أن تكون القوى الاجتماعية متملكة لحاجاتها معرفياً وكيفية تحقق هذه الحاجات، وتأمين سُبل التحقق الفعلي لها، أي: لا يكفي النفي السلبي لنظام ما حسب قول سمير أمين، بل المطلوب نفي إيجابي له. وفي حالة الثقافة الليبرالية السائدة لا يكفي رفض الشكل الليبرالي لظهور الواقع المادي، وهو حاجات الناس ودوافعها وأهدافها ومعانيها الوجودية، بل المطلوب أن يتحرر هذا المضمون الحقيقي من قشرته الليبرالية الكابحة والقمعية.
الصين ومنع حملات «التبشير»
قامت الصين في الشهر الماضي، بمنع الحملات التبشيرية الدينية، التي بغالبها غربية، من الدخول إلى البلاد ومنع أي نشاط تبشيري بين الصينيين. فخلال السنوات الماضية أدى النمو الفعلي لحياة الصينيين من جهة، وتراجع التسييس الاجتماعي من جهة أخرى، إضافة إلى نمط الحياة الرأسمالي الاستهلاكي بشكل أساس، أدت إلى حالة من بروز حاجات روحية جديدة لدى الصينيين، مركزها معنى للحياة الفردية حيث لا يبدو أن المُثل القائمة (حيث طابعها الاستهلاكي العام) في المجتمع قادرة على إشباعه، فلجأ الكثيرون إلى تبني المسيحية التي هي أعمّ في طرحها من الديانات الأرضية الشرقية. استُغل هذا الواقع، لتدخل جهات تبشيرية عدة إضافة إلى ما سمي بـ «كنائس تحت الأرض» السرية والتي تقدم في جوهرها رفضاً للحكم الروحي في الصين، بحجة النظام «الملحد»، مؤسسة بذلك لعناصر تمرد اجتماعية لا يمكن إهمالها. أهمية دور إغناء الثقافة الاشتراكية في الصين وتدخلها في إعلاء شأن القيم الاجتماعية المنتجة، والبديلة عن الخواء الروحي والبعد عن روح التضامن والتضحية، تم التطرق إليها من قبل الرئيس الصيني في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الماضي، وهذه دلالة على أهمية المسألة وحساسيتها.
مواجهة الليبرالية
كعملية تغيير جذرية
الرفض «الأصولي» لمفاهيم «الغرب» من قبل العديد من القوى الرجعية في بلادنا مثلاً، والتي تعتبر هكذا ثقافة «غريبة عنا» ومهدمة لمجتمعاتنا، هو الطرف الآخر لليبرالية لا نقيضها الفعلي. فعدم الاعتراف بجوهر القوة المادية الدافعة خلف سعي القوى الاجتماعية إلى إشباع الجانب المعنوي، يعني: عدم الاعتراف بالبنية الطبقية في بلادنا، الحاملة لليبرالية والتي يجب تغييرها من أجل الإشباع الحقيقي لا المشوّه لهذه الحاجات، المبني على التهميش وعدم المشاركة بإدارة المجتمع والتغيير. لهذا مثلاً: تتبادل القوى «الأصولية» والليبرالية الأدوار وتلتقي في علاقة تخادمية، أو ليست كما أغلب تيارات علم النفس السائدة التعفّفية المعبرة عن جوهر الفلسفات الزاهدة القديمة برفض وكره الحاجات الموضوعية؟ أما المطلوب هو كسر التناقض بين الشكل الليبرالي المأزوم جراء ظهور عجز طريق السعادة الليبرالي، مع الجوهر الموضوعي لوجود هذه الحاجات. وكسره يتم عبر الإطلالة وإبراز هذا المستوى مترافقاً مع نمط حياة تشترك فيه القوى الاجتماعية في إدارة المجتمع والدولة وحياتها ككل، عندها تكتسب معنى وجودها وقيمتها الضرورية وينكسر حرمانها الروحي كما المادي.