«الساعة» لكارلو ليفي: الحرب وكرامة المثقف والسياسة «من تحت»
إبراهيم العريس إبراهيم العريس

«الساعة» لكارلو ليفي: الحرب وكرامة المثقف والسياسة «من تحت»

كان الكاتب الإيطالي كارلو ليفي مهملاً بعض الشيء من جانب الأوساط الأدبية في بلاده، وشبه مجهول في أوروبا كلها، حين حقق مواطنه المخرج فرانشيسكو روزي واحداً من اجمل وأقوى أفلامه انطلاقاً من رواية له - أي لليفي - عنوانها «المسيح توقف في ايبولي». كان ذلك في العام 1979، وبالتالي في زمن ما كان في إمكان الكاتب ان يستفيد فيه من الشهرة الجديدة التي أضفاها فن السينما على عمله. فهو كان رحل قبل ذلك بأربع سنوات.

ومهما يكن، فإن عرض ذلك الفيلم الإنساني العميق والذي يتناول جانباً من الحياة الاجتماعية والسياسية في الجنوب الإيطالي ايام حكم موسوليني الفاشي، أعاد اسم كارلو ليفي الى واجهة الحياة الأدبية من جديد، ما ادى الى إعادة طباعة معظم اعماله التي كان كتبها وأصدرها اواسط القرن العشرين. ولئن ظلت روايته «المسيح توقف في ايبولي» تعتبر عمله الرئيس وأكثر رواياته شعبية، فإن لكارلو ليفي أعمالاً أخرى قرئت على نطاق واسع، وعلى ضوء جديد ساعد مرور الزمن على نشره في نصوص بدت حين صدرت أول الأمر نخبوية. ومن تلك الأعمال رواية «الساعة» التي قال عنها احد كبار النقاد الإيطاليين ذات مرة: «إذا كان للأدب الروسي ان يفخر بأن لديه «معطف» غوغول، يحق للأدب الإيطالي ان يفخر بأن لديه «ساعة» كارلو ليفي».

كتب كارلو ليفي «الساعة» وأصدرها بين العامين 1950 و 1951، وهو يصوّر فيها من خلال تجربة تكاد تكون شخصية مناخات الحياة في روما، خلال السنوات التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية. غير أن الكاتب لا يصوّر تلك المناخات في مشهد بانورامي متمدد مكاناً وزماناً، كما كان يمكن المرء أن يتوقع من عمل يريد أن يصوّر عالماً بكامله، بل يصوّر كل هذا العالم، من خلال أحداث تدور خلال 48 ساعة فقط، ومن خلال تعرّض شخص واحد لتلك الأحداث، وأخيراً من خلال تصوير الأحداث في أمكنة محصورة جداً، هي الأمكنة التي يمكن «البطل» ان يتجول ويعيش فيها خلال تلك الفترة الزمنية المحدودة. ومع هذا، فعل النص فعله في مجال رسم صورة حقيقية وبانورامية، للحياة الإيطالية خلال تلك السنوات التي أفاق فيها الإيطاليون على بلد مدمّر، محتلّ، اختلطت فيه المقاييس، وارتبكت القيم بحيث لم يعد في وسع أحد ان يعرف من انتصر ومن هُزم، من ينتمي إلى الماضي ومن ينتمي إلى المستقبل.

كل هذا صوّره كارلو ليفي، إذاً، من خلال تلك الحكاية البسيطة: حكاية الرجل الذي نراه في بداية الرواية وهو يحلم بأن الساعة التي كان أبوه قد أعطاه إياها قبل عشرين سنة سُرقت منه. في الحلم يشكو الرجل أمره إلى القضاء، وبالفعل تُعقد محكمة تحاول أن تعيد إلى الحالم حقوقه. وعلى رغم ان المحكمة تكون برئاسة الكاتب والفيلسوف بنديتو كروتشي، فإنها تعجز عن أن تقدّم لصاحبنا أي عون... كل ما في الأمر أن الرجل، بعد عقد المحكمة، يعثر على الجزء الميكانيكي الداخلي من الساعة، ويكون عليه ان يكتفي به.

عند الصباح يفيق صاحبنا مزعوجاً ليدرك انه كان يحلم فيحسّ بشيء من الراحة بعد ان يتفقد الساعة الغالية على نفسه... غير ان راحته بعد الاستيقاظ لا تطول، إذ - وهذه المرة في الحقيقة، وليس في الحلم - يؤدي تصرف أخرق منه الى فقدان الجزء الخارجي من الساعة من جديد، ولا يبقى منها - كما في الحلم - سوى الجزء الميكانيكي الداخلي. هنا، طالما ان الأمور تجرى هذه المرة في الحياة الحقيقية، يرى صاحبنا أن عليه العثور على ساعاتي يصلح له الساعة، ويعيدها الى الحياة. غير ان الذي يحدث بعد يومين فقط هو ان الرجل يرث ساعة شبيهة تماماً بالساعة الأخرى، من عمّ له، كان يحبه وكأنه أبوه، ويبدو الأمر بالنسبة إليه عادلاً، إذ يعوّض له على الساعة الخربة. وعلى هذا تنتهي أحداث هذه الرواية.

الأحداث التي تبدو، اذ تلخّص على هذا النحو بسيطة، لا خبطات مسرحية ولا دراما وحتى لا عمق فيها. غير ان هذا كله ليس صحيحاً. ذلك ان كارلو ليفي عرف، من خلال ملاحقته بطله طوال 48 ساعة وسط روما، كيف يقدم لنا صورة بانورامية دقيقة، تكاد تكون فوتوغرافية للحياة في روما، خلال ذينك اليومين. والأهم من هذا هو ان الكاتب آثر ان يجعل الأحداث تروى لنا من طريق الراوي، الذي هو صاحب الساعة نفسه.

والمهم أكثر هنا هو ان هذا الراوي يشبه تماماً، في مواصفاته وعمله وطريقة تفكيره، وجغرافية إقامته وماضيه القريب، مؤلف الرواية، بحيث يبدو، في النهاية، وكأن كارلو ليفي يكتب جزءاً من سيرته من خلال حكاية ذينك اليومين. فالبطل، مثل كاتب حكايته، صحافي أصله من تورينو. وهو مثله ناضل طوال سنوات عدة ضد الفاشية، ومثله أودع السجن ذات زمن. ومثله عرف النفي (الذي يصف كارلو ليفي سنواته فيه، في رائعته الكبرى «المسيح توقف في ايبولي»)، ومثله كان يساري النزعة، ناهيك بأنه، مثله ايضاً، شارك في عمليات المقاومة التي أدت الى تحرير منطقة توسكانا قبل ان يُستدعى من جانب حزبه الى روما حيث تولى إدارة التحرير في صحيفة يسارية راحت تصدر بعد الحرب وبعد زوال فاشيي موسوليني.

في كل هذه الجوانب من سيرة الكاتب وسيرة بطله، لا نجد تشابهاً فقط، بل تطابقاً كلياً. ومن هنا، بدا واضحاً تماماً ان كارلو ليفي، إنما استخدم حكاية الساعة، وتلك الجولة التي يقوم الراوي بها خلال يومين مفصلاً بين فقدانه ساعة أبيه، وحصوله على ساعة عمّه، من اجل تقديم صورة مدهشة للحياة في روما.

غير ان تلك الصورة التي رسمها ليفي لم تكن عادية ولا بسيطة، يشهد على هذا النقد الذي كتب عن «الساعة» يقول: «إننا في إزاء هذه الرواية نجدنا امام انفتاح على العالم، وعلى الكائنات والأشياء، يذكرنا تماماً بالانفتاح المفعم بالإنسانية الذي كنا اكتشفناه، في «المسيح توقف في ايبولي»، حيث طالعنا ذلك السرد الموضوعي، ولكن مقدَّماً عبر حساسية فردية بدت جديدة على الأدب الواقعي الإيطالي في ذلك الحين».

ولقد لفت النقد الذي تناول «الساعة» خصوصاً، الى ان «هذه الرواية تجري أحداثاً ودلالات، على مستويات عدة، فهناك اولاً المستوى الذي في استطاعتنا اعتباره مستوى تاريخياً، بالنظر الى انه مرتبط بمهنة صاحب الساعة، أي بالصحافة، حيث من خلال اهتمامه بعمله لا يفوتنا ان نعيش وسط مواقفه السياسية التي لا لبس فيها ولا غموض»، وبالتالي، فإن هذه المواقف تصدر من الأحداث السياسية خلال يومي الرواية، وتعود الى أحداث سابقة، من موقع لا يبدو من الصواب اعتباره محايداً.

انه تاريخ أمة خرجت من الحرب، لكنها خرجت مقسومة يعرف جزء من أبنائها، على الأقل، ماذا يريد، خصوصاً ان اللحظات التي صورها الكاتب، كانت تلك التي راحت تخبو فيها كل الآمال التي رسمت خلال سنوات المقاومة. إذ ها هو بطلنا هنا يصوّر لنا كيف انه، ما ان انتهى الصراع العسكري المسلح، حتى استعادت العادات السياسية القديمة حياتها السخيفة، على ضوء إسقاط اول حكومة كانت شكلت بعد التحرير. والحقيقة ان «الساعة» في مجال وصفها تلك اللحظات تشكل «وثيقة شديدة الأهمية» وفق تعبير النقاد، خصوصاً ان الكتاب لا يصور السياسة في بنيتها الفوقية، بل تحديداً من انعكاسها على الحياة اليومية للناس، تارة من خلال إطلاله على الأحياء المدمرة وعلاقة سكانها بها، وتارة اخرى من خلال وصف السوق السوداء والإفقار المستشري لدى الفئات التي كانت الأكثر دفعاً لثمن كل ما حدث، في مقابل فئات استفادت خلال الحرب وها هي الآن تستفيد بعدها... وبين دمار الحرب، وفساد السياسية والاقتصاد، لم يفت كارلو ليفي ان يصور في طريقه الشعب البسيط، الشعب الطيب، الذي لا يبدو راغباً إلا في العيش بسلام وهدوء، بعيداً من ألعاب السياسة المحلية، ومتطلبات الصراعات الكبرى.

وهنا، في هــذا المـــجال، يبـــدو واضحاً ان كارلو ليفي إنما صوّر وبقــوة، اكتشــاف مثقف للشعب ولما يريده الشعب حقاً، بعدما كان غافلاً عن هذا طوال الوقت منهمكاً في فوضى السياسات الكبرى.

ولد كارلو ليفي في تورينو عام 1902، ورحل العام 1975 في روما. وواضح هنا اننا بعدما عرضنا جوانب من سيرة بطل روايته «الساعة» لم نعد في حاجة الى عرض جوانب سيرته، لأنه هو بطل الرواية. ويبقى ان نذكر ان كارلو ليفي كان صحافياً وروائياً ورساماً، كما كان طبيباً، وهو ما يمكن إدراكه من خلال روايته الكبيرة الأولى «المسيح توقف في ايبولي» والتي كتبها خلال عامين (1935 - 1936) نفته فيهما السلطات الفاشية الى الجنوب بسبب نشاطه السياسي. ومن كتب ليفي الأخرى: «الخوف من الحرية» (1947)، و «الكلمات حجارة» (1955) و «للمستقبل قلب عتيق» (1956).

 

المصدر: الحياة