هستيريا المعاني
تتغير المعاني من شخص لآخر بحسب الثقافة التي وجدوا فيها، والتي أدت إلى تكوّن هذا المعنى. كما تتغير هذه المعاني من شعب أو بلد لآخر بحسب الثقافة التي يوجدون فيها. لهذا تنعكس المهام أو الأنشطة داخل هذه الشعوب بحسب المعاني التي اكتسبوها، مثلما يختلف معنى المقاومة أو الاحتلال من بلداننا (أو تلك التي خاضت مقاومة واحتلال) وتلك البلدان التي لم تخض هذه التجربة لكي تكوّن هذا المفهوم، أو معاني الأفعال أو الأشياء الأخرى المرتبطة بحدث معين. فمثلاً: نجد أن المصطلحات تختلف بين أهل القرى وأهل المدن، أو بين واقع وواقع آخر، لأن هذه المصطلحات مرتبطة بالفعل أو بالنشاط الذي يقوم به الأفراد.
ما يمكن أن نكتسبه من المعنى
ينعكس المعنى في عدة أمور، في كون المعنى هو فهم موضوعي وذاتي (الفهم الذاتي للمعنى الموضوعي) لما يدور في فلك الأفراد. الموضوعي في الأمور الحياتية الجماعية مثل: الانتماء إلى بلد (الوطنية أو القومية)، العلاقات الاجتماعية، مفهوم الدور الاجتماعي، وغيرها من مفاهيم تستخلص من المجتمع. والذاتية في الأمور الحياتية الخاصة، أو من خلال التجربة المباشرة والتي تكوّن معنىً لما يحصل حالياً وإلى أين ستتجه الأمور مستقبلاً. من هذا المعنى الموضوعي والذاتي نبني على الثقافة التي ادت اليه، والتي اعطت المعنى المعين للافراد من خلال النشاط الذي يقومون به.
نجد هذه المعاني في التقاليد المعاشة، وفي الهرمية الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية أو الدور الاجتماعي الذي يقوم به الفرد. كما نجد انعكاسها أو إسقاطها في الأمور الحياتية الأخرى بكافة أشكالها مثل الفن، الرياضة، أو أي نوع من التعبير. فمثلا: تغيّر نوع ونمط الموسيقى والأغاني عبر السنين يعكس المعاني الموجودة في أي مجتمع ما، وما هو النشاط الأكثر تركيزاً أو تثبيتاً في أية لحظة تاريخية. وهذا لكون المعنى المرتبط بالنشاط متغيراً بحسب تغير هذا النشاط وبحسب تغير الثقافة في ترابط هذه العوامل فيما بينها. فالخروج من الاحتلال يعطي معنى آخر للبلد وكيفية العيش فيه، كما الدخول في نمط الإنتاج الرأسمالي أعطى معنىً آخر، جديداً، للأفراد بكيفية العيش تحت هذا النظام. وهذا المعنى الذي يستمر في التغيّر بحسب النشاط الذي يقوم به الفرد، يتغير أيضاً مع الحاجات في كل لحظة من عمر الإنسان. تماماً مثل: معنى المستقبل الذي يكون طوباوياً عند عمر معين، يصبح حقيقة يجب معالجتها في عمر آخر.
أين المعنى في كرة القدم
في كرة القدم (كأس العالم) المعنى الموجود من تشجيع فرق غير مرتبطة فعلياً بالأفراد يأتي من النشاط التي تمثله هذه الرياضة عند الأفراد. فحتى لو أن الفعل (أو النشاط) غير مرتبط مباشرة، ولكن المعنى الذي تعطيه كرة القدم هو معنى الانتماء إلى مكانٍ وشيءٍ معينٍ، محددٍ وواضحٍ، وله بداية ونهاية، أي: معلوم وغير غائب أو مشوش. فاكتساب معنى وفعل الانتماء من كرة القدم يقابله غياب هذا المعنى من مركزه أو مصدره الرئيس، أي: البلد أو المجموعة التي ينتمي إليها الفرد ثقافياً. ولهذا، بالرغم من أن لكرة القدم طابع الجماعية في اللعب والتشجيع، ولكن هذا المعنى أسقط في نشاطه الخاطئ، مما يدفع البعض بالذهاب إلى التطرف أو الأقصى من خلاله. ومما يشوه حتى المعنى المكتسب من كرة القدم من رياضة إلى محاولة للانتماء.
يعتبر ليونتيف في حديثه عن النشاط ومدى تأثيره على تكون الوعي والمعنى للإنسان أن الناس «لا يواجهون فقط التحدي المتمثل في اكتساب ثقافة راسخة ؛ بل يواجهون أيضاً المواقف التي يجب عليهم فيها صياغة ثقافة مرغوبة»، والتي تخلق تناقض بين الانتماء او الاندماج مع الثقافة الموجودة، وبين صياغة ثقافة مرغوبة لهم.
هذا التناقض التي تخلقه الثقافة السائدة (أي الفعل السياسي والاجتماعي) بين المعنى المكتسب من خلالها وعدم تجانس هذا المعنى مع نشاط وأفق الأفراد، يخلق تناقضاً في المعاني المكتسبة في المجتمع. ويعكس هذا التناقض بين الموجود (المنعكس من الثقافة والمجتمع) والمطلوب/ الضروري (المنعكس في الحاجات والطموح والأهداف النابعة منها) غياب المعنى الحقيقي للأمور التي تظهر في أشكال أخرى. ما يمكن أن يشبه بالذهاب إلى التطرف أو الأصولية في معالجة أيّ أمر، أو من خلال المعايير المتناقضة في مقاربة المواضيع الاجتماعية أو السياسية.
المعنى، هو من المنطلقات الأساسية لتطور الإدراك، لكون المعنى مرتبطاً بالنشاط الذي نقوم به. لذلك تغيير أي معنى ذاتيٍ أو عند الآخرين يبدأ بتغير النشاط، أي: بتغير أسلوب العيش الذي يجب أن يفرض نشاطاً جديداً يعطي معاني جديدة، أو يشبع تلك الموجودة في وعي الفرد، بشكل حقيقي، لا وهمي، كما نراه في الممارسات السائدة اليوم، ومنها “هستيريا” كرة القدم مثلاً.!