كنز الأموال بين القرآن والانجيل

كنز الأموال بين القرآن والانجيل

«يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ...و...الذين يكنزون الذهب والفضَّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» التوبة الآية 34

 

الآية من أخطر ما نزل من القرآن في مسألة العلاقة بين المال والبشر، وفنّد حكاية (الواو) الواردة في الآية المجاهد الباحث الجليل هادي العلوي البغدادي_ طيب الله ثراه_ حيث قال: ورد في الدر المنثور للسيوطي عن مؤلف قديم، هو: ابن الضريس أنهم لما جلسوا لجمع القرآن أرادوا أن يلقوا الواو في الآية: والذين يكنزون نهض أبيّ بن كعب وقال: لأضعن سيفي على عاتقي أو لتثبتُنّها. فأثبتوها، وأبيّ بن كعب صحابي من حملة القرآن. والواو هنا استئنافية قطعت الجملة اللاحقة عن السابقة. ولو أنها حُذفت لاتصل شطر الآية وصار الاسم الموصول الذين متعلقاً بالأحبار والرهبان على سبيل البدل أو عطف البيان ويكون حكم الآية بذلك منصرفاً إلى اليهود ممثلين في الأحبار والنصارى ممثلين في الرهبان. ومع الواو تكون العبارة مستقلة عمّا قبلها ويكون حكم الآية شاملاً.
تمسك الغفاري بهذه الآية دفاعاً عن المستضعفين في الأرض، وراح يرددها حتى ضاق به معاوية بن أبي سفيان والي الشام في دمشق، فقال: يا أبا ذر إن الآية نزلت في أهل الكتاب فقال أبو ذر: بل نزلت فينا وفيهم. وفي الحديث عن أم سلمة أن رسول الله قال: الذي يشرب من آنية الذهب والفضَّة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. ولخطورة معنى الحديث تناوله أهل الفقه بالدراسة والتمحيص. وقد قرأت رأياً للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هجرية في كتابه الطب النبوي أعرضه هنا لفائدته.
قيل إن علة التحريم تضيق النقود، فإن الذهب والفضَّة إذا اتخذا أواني فاتت الحكمة التي وضعت لأجلهما. وقيل العلة الفخر والخيلاء. وقيل العلة كسر قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها. وهذه العلل فيها ما فيها. فإن التعليل بتضيّق النقود يمنع من التحلي بها، وجعلها سبائك ونحوها مما ليس بآنية. والفخر والخيلاء حرام بأي شيء كان. وكسر قلوب الفقراء والمساكين لا ضابط له. فإن قلوبهم تنكسر برؤية الدور والقصور الواسعة بحدائقها العجيبة الباذخة، والمراكب الفارهة والملابس الفاخرة والأطعمة اللذيذة وغير ذلك من المباحات في الدين الإسلامي. ويقال: إن كارل ماركس كان يردد جملة وليم شكسبير المشهورة في روايته تيمون الأثيني «أيها الذهب، أيها الثمين البراق، إنك تجعل الأبيض أسود، والقبيح جميلاً، والشر خيراً، والجبان باسلاً، هذه العبودية الفانية هي التي تعقد الروابط المقدسة وهي التي تحلّها. إنها تبارك الملعون وتشرّف السارق وتضمن له السلطة والنفوذ. إنها تُحضر العُشاق للأرملة العجوز، يا للمعدن الملعون» نجد هنا بعداً فلسفياً شرقياً واضحاً في فلسفة الرَّجُلين.
وكل هذه علل منتقضة إذ توجد العلة ويتخلف معلولها. والصواب أن العلة في التحريم (والله أعلم) ما يكتسبه القلب من غِلظة وجفاء وقسوة في الهيئة المنافية لعبودية الله منافاة ظاهرة. لهذا علل النبي بأنها للكفار في الدنيا. فلا يصح استعمالها لعباد الله. وإنما يستعملها من خرج عن حب الله. وهذا التعليل يطابق ما جاء به يسوع المسيح فقد نظر إلى جمع وكنز الأموال بوصفه من أبواب الشرك، إذ هو يتعارض مع الإقرار بوجود الله كربّ واحد يجب عبادته دون غيره. ومن هنا اعتبر الغنى إثماً من الكبائر التي تمنع مرتكبيه من الدخول إلى ملكوت الله_ وفي ظني على الأحزاب الشيوعية أن تعود إلى هذا الأساس وتتشدد في هذا المعيار_ جاء في الإصحاح التاسع عشر، الآية الرابعة والعشرين من أنجيل متى: أقول لكم إن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله. وقد تشدَّد يسوع في هذا المعيار، فرفض دخول الأغنياء في جماعته. وفي إنجيل متى، أن شاباً أراد أن يكون من أتباعه فقال له: إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون كنزك في السماء وتعال اتبعني.
وفي حادثة شهيرة روتها الأناجيل تقول: دخل يسوع إلى بيت الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون، وقلب موائد الصيارفة، وقال لهم: مكتوب بيتي يدعى بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص. وقد شملت تعاليمه تحريم كنز الأموال. جاء في أنجيل متى: لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يُفسدها السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون، لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك أيضاً. لأن القلب لا يجمع محبوبين، الله والمال. وجاء في الأثر: لما ضُربت الدراهم والدنانير صرخ إبليس صرخة وجمع أصحابه، وقال: قد وجدتُ ما استغنيتُ به عنكم في تضليل الناس، فالأب يقتل ابنه، والابن يقتل أباه بسببه. والمفاجأة المحزنة أن تكون الفضَّة سبباً في تسليم يسوع المسيح إلى أعدائه كي يصلبوه. جاء في الإصحاح السادس والعشرين من أنجيل متى: ذهب يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء الكهنة وقال: كم تعطوني لأسلمه إليكم؟ فوزنوا له ثلاثين قطعة من فضَّة. وهذه_ في رأي_ علّة جديدة وقوية لتحريم الكنز.
والكنز في الأصل هو المال المدفون. وفي الاستعمال هو المال الكثير الذي يدخره صاحبه لنفسه. بصرف النظر عن وسيلة الادخار. وقد تعددت أشكال الكنز عبر العصور، كأن يكون الكنز في جرار فخارية محكمة الإغلاق مطمورة في جدار أو جب. أو تحت بلاط الغرف. وفي العصر الحديث يتم الكنز في بنك أو مصرف بالنقد الوطني أو الأجنبي أو السندات. والبعض مازال يفضل كنز الذهب أو الفضَّة. وقد جاء في أحد الأمثال السومرية المدونة على لوح طيني صغير من الألف الثالث قبل الميلاد: من ملك الفضَّة الكثيرة يمكن أن يكون سعيداً، ومن ملك شعيراً كثيراً يمكن أن يكون سعيداً، ولكن من لا يملك شيئاً يمكنه أن ينام. ويحكى أن جحا دفن كنزاً في الصحراء، فلما أراد علامة تدل على مكان الكنز لم يجد غير سحابة صيف جعلها دليلاً على موضع كنزه!