«الفوضوية» في زمن الفسيبوك والنيوليبرالية
اختلاف نمط العيش (العلاقة مع الواقع) يؤدي إلى اختلاف الأمزجة الفكرية والسياسية، فالفروقات في ظروف الحياة الاجتماعية، ما بين مختلف الفئات تنتج فروقات في ميولهم الفكرية والعاطفية، واتجاهاتهم تجاه الواقع وذاتهم، وبالتالي ما يمكن أن يجد تكثيفه في الاتجاهات السياسية الخاصة بهم. وغالباً ما يُعتبر هذا الموقف بالميكانيكي من قبل الفكر السائد، أي أن “الماركسية تختزل غنى الحياة وتسطِّحها بهكذا معادلة”، ولكن الواقع يثبت تاريخياً، أن طبقة ما يكون مزاجها متشابه ويختلف عن مزاج الطبقات الاجتماعية الأخرى، وهذا لا يعني أن كل الأفراد في طبقة معينة، هم نسخة عن بعضهم البعض، ولكن التجانس، هو: في تشكل وعي الأفراد في طبقة ما، وجهوزيتهم السياسية مثلاً، وعلاقتهم بواقعهم والخيارات المتولدة عندهم ونزوعهم النفسي.
لهذا، مثلاً: إن أفراد الطبقات المسحوقة مغلقة الأفق اجتماعياً، نجدهم أكثر جذرية تجاه الواقع من أفراد الطبقات التي تملك هوامش اجتماعية أوسع للمناورة في معيشتها. على هذا الأساس المادي في حياة الناس وموقعهم الاجتماعي، وفي سياق الحركة الاجتماعية، ومآلات حياتهم المستقبلية، يحصل عادة تمييز التيارات السياسية كاتجاهات معبرة في الوعي عن هذا الوجود المادي.
وهذا لا ينفي وجود أفراد من طبقات “أعلى”(ولكنهم ليسوا حالة عامة) ولكنهم في موقعهم الفكري والسياسي في موقع التغيير والمواجهة مع علاقات الاستغلال، فالتناقضات في مجتمع ما لا يمكن اختصارها بالحرمان المادي، الذي يمكن أن ينتج أفراداً ثوريين فقط، بل إن حضور الحرمان المعنوي مثلاً (دور الفرد المنتج الحقيقي علمياً أو فنياً أو ثقافياً...) هو أساس أيضاً في تشكل وعي ثوري عند الأفراد، ولظروف محددة قدروا على الربط بين معاناتهم واصلها الطبقي الاجتماعي في علاقات الإنتاج الاستغلالية (تجاهل هذا التوصيف في الماركسية هو نفسه الموقف الميكانيكي)، وتشكل النزوع ضد السائد ليس هو وحده المعيار في تحديد التيار السياسي الذي يمكن للفرد أن يكون على استعداد لتبنيه، بل إن معياراً أكثر أهمية هو: كيفية سلوك الفرد خلال ممارسته الصراع ضد علاقات الاستغلال بالشكل السياسي والفكري، ومراحل هذا الصراع، أي في قدرته على عدم الوقوع في مواقع الانتهازية تجاه الواقع، على حساب قراءة القوانين المحركة وضرورات التغيير وشروطه والقوى المطلوب تجميعها.
أصول التيار الفوضوي سياسياً
على هذا الأساس المادي مثلاً، ميز لينين بشكل واضح تيار الفوضوية السياسية الحامل لميولٍ عدميةٍ، والذي يستند إلى نفسية فردانية في جوهرها، تكون تعبيراً عن “الروح المختارة” لصاحبها، والتي هي فوق التنظيم والالتزام والانضباط الحزبي، الرافض للالتزام بالعمل الجماعي والبرنامجي الصارم، فكتب: “إن هذه الفوضوية المتعالية هي من خصائص العدمي...”، وأن “مبدأ تقسيم العمل تحت قيادة مركز واحد، هو أمر يدفعه إلى إرسال صرخات مبكية مضحكة احتجاجاً على تحويل الناس إلى دواليب ونوابض...وما أن نذكر أمامه قوانين تنظيم الحزب، حتى ترتسم على وجهه تكشيرة احتقار” (لينين، المؤلفات المختارة_ المجلد الأول_ ص393). هذا التمييز في الموقف التنظيمي للفوضوية، يقوم على موقفها السياسي، حيث تدعو إلى هدم كل سلطة وسيادة، الفرد مثلاً، ومعاداة العمل المنظم النضالي، وخصوصاً فكرة الحزب، من هنا كانت ناحية رفض الالتزام بالتنظيم ضمن حزب مركزي منضبط، هو أساس ضروري للتغيير السياسي، فدون عمل جماعي منظم وملتزم لا يمكن لا الدفاع عن القضية، ولا الوصول إلى الأهداف. وهذا مثلاً، كان أساس محاربة لينين(وكتلة البلاشفة) لكتلة المناشفة (وتروتسكي منهم) ونعتهم بالانتهازيين تنظيمياً ومن ثم سياسياً.
الفيسبوك وتعزيز الروح الفوضوية والفردانية
من المعايير التي يمكن التمييز إذاً على أساسها، بين العقلية المكافحة الملتزمة وبين العقلية الفوضوية العدمية، هي: مدى وجود عمل جماعي منظم في حزب مركزي (يسترشد بالنظرية العلمية الماركسية في تفسير الواقع). هذا التمييز يقوم أيضاً بين توصيفي “المثقف الثوري”(المكافح) من جهة، وبين “المثقف ذا النزوع الفوضوي” من جهة أخرى. هكذا يكون الفيسبوك، هو المنصة “المثالية” لتعزيز الروح الفردية خارج كل تنظيم، فهو من حيث بنيته وشكله يقوم على منصات فردية كأساسٍ للوجود فيه، وهو إضافة إلى العزلة النسبية التي فرضها على الفئات التي تملك هامش العمل الاجتماعي، فما هو أقصى عدد من الأصدقاء يمكن لشخص واحد أن يضيفه إلى فيسبوك مثلاً؟ إذا أخدنا الجانب الكمّي للعلاقات، وعادة أن منطق الأمور على المنصة من حيث انجذاب “المتشابهين فكرياً” إلى بعضهم البعض، يعزز من عملية العزلة هذه، إذا أخذنا الجانب النوعي للعلاقات.
تغذية الفوضوية عبر منصات كفيسبوك وغيره، تستند في جانبها التاريخي الاقتصادي إلى كون الفوضوية غالباً تكون أكثر تقدماً في البنيات الاجتماعية المتأخرة انتاجياً، لغياب أطر العمل الصناعي الواسع القادرة على تأطير الأفراد، أكثر من البنى الريعية الخدمية، وهذا هو جوهر المرحلة النيوليبرالية (وثقفاتها الفردانية الموهومة أساساً) وتراجع الاقتصاد المنتج، أو غيابه في دولٍ محددة، لتوسع الفئات المرتبطة بأشكال إنتاج مفكك أو خدمي أو ريعي، غير حقيقي(مالي).
هكذا يعمل الفيسبوك في هذا الجانب على تغذية العقلية والروح الفوضوية، في رفعه من أهمية “الدور الفردي” على حساب العمل المنظم الجماعي، كون منطق ارتباطه بالفيسبوك يكون أساسه فردياً، ولهذا من الضروري التمييز بين اللحظة الابتدائية في علاقة فرد_ فيسبوك. فالعلاقة تختلف إن كانت: فرداً كجزء من عمله الجماعي، الذي يجد في الفيسبوك أداة جماعية له، وليست فردية مضافة إلى عمله الجماعي(خارج الفيسبوك).
تحديد التيار الفوضوي مرة جديدة، وفي لحظة عودة القوى المتضررة إلى مسرح الفعل، هو ضرورة من أجل صيانة عملية التغيير(وبالتالي إنجاز مهام حماية المجتمع والتقدم والعدالة) التي لا يمكن أن تكون إلا عملاً جماعياً منضبطاً يتحرك ضمن روح واحدة وجسم واحد.