دفاتر شيوعية

دفاتر شيوعية

(أنت إن قلت مت, وإن سكت مت, قلها ومت)
معين بسيسو

لم أصدق عينيّ وأنا ألتهم سطور كتاب الشيوعي الفلسطيني ابن غزة هاشم الشاعر معين بسيسو، لم أتصور أنني أقرأ سيرة حياة كتبها في السجن الحربي في أرض الكنانة. لقد أخذتني كلماته في سطورها إلى مواضع من الخدر الجميل، وصعدت بي إلى مرتفعات وَجدٍ عالية، وأطربتني طرباً يقطر حزناً، بما فيها من غزارة مشاهد حياة سجين مروعة. ولم أكد أنتهي من كتاب «دفاتر فلسطينية» وما كنت أريد له أن ينتهي، حتى أحسست أن شيئاً أضيف إلى مخزوني المعرفي، فسكت، لأنه لا يليق أن يصدر صوتاً في مكان يتدفق منه السكر برقة إلى كفة ميزان.
1
ماذا أصابك يا مُعين؟ هل كنت تدري كم نحبك؟ من أين أتتك تلك الأطنان من الفولاذ في جلدك وأعصابك ولحمك وعظمك؟ ويقول جلادك، وهو لا يدري ما أصابك: اكتب فقط أنك لست شيوعياً. إنهم يعطونك الآن أقلاماً، أولئك الذين كسروا أصابعك في غرفة التحقيق. يا كاتب التاريخ ماذا أكتب؟ يعطونك الآن أوراقاً، أولئك الذين جردوك من ثيابك. كانوا يريدون منك أن تكتب، فتتذكر عيني أمك، بحر غزة الذي تعلمت فيه السباحة وأنت في السابعة من عمرك. ها هم من جديد، إذا كنت لا تريد أن تكتب، قل فقط بأنك لست شيوعياً وسوف تخرج... (أيها الكذابون لا يوجد معتقل فلسطيني واحد في أرض الكنانة) كان هذا صوت أحمد سعيد، وكان يرتفع من إذاعة صوت العرب، وكانوا يستمعون جميعاً في الزنزانة، فقد هربوا راديو ترانزستور صغيراً بحجم الكف. خليل عويضة المشرف العام على التعليم في مدارس قطاع غزة، والمعتقل في زنازين السجن الحربي الدموية، صاح وهو يُصغي إلى صوت أحمد سعيد: إنه يكذب، نعم يكذب، ها نحن في زنازين السجن الحربي. في ذلك الوقت كانت أصوات الإذاعة تكذب، وكانت الجرائد الرسمية تكذب، ومطابع الكتب تكذب، والقصر الجمهوري يكذب، وحتى الهواء كان يكذب أيضاً. حمزة البسيوني قائد السجن الحربي يرخي سدول ليله عليك في اللحظة المناسبة تماماً، يدق صوته كالمسامير في أكفك كي يصلبك، ويصيح: قل: إنك لست شيوعياً وستخرج. الزنزانة تمتلئ بالوجوه، إنك لست وحدك، إنهم يريدون أن يكسروا صوتك لكي يكسروا عظمك. ويخرج حمزة البسيوني تتبعه الكلبة غولدا، لقد أطلقوا عليها اسماً اسرائيليا، أما أنيابها فقد كانت أنياباً عربية أصيلة مسنونة من المحيط إلى الخليج.
2
ماذا أصابك يا معين؟ هل كنت تدري كم نُحبك؟ وأنتَ في السابعة أراد عمك أحمد أن يُعلمك السباحة في بحر غزة، فماذا فعل؟ كان يملك زورقاً على قد الحال، وضعك فيه وراح يجدف، فراح الزورق يخفق بين أمواج البحر الأبيض المتوسط. ثُمَّ على حين غرة، أمسك بك، وألقاك في اليم. شربت الملح حتى ارتويت، وعاركتَ الأمواج وقاتلتَ بذراعيك، وحينما أوشكت على الغرق، أعادك عمك إلى الزورق، كي يُلقي بك ثانية إلى الماء وها هو شعرك الوثني مُشبع بملح البحر. وهكذا تعلمتَ السباحة وكان عمك من حيث لا يدري يُعلمك الشعر أيضاً. أول من نشر لك قصيدة كان شاعراً ورفيقاً من أرض الكنانة، اسمه عبدالرحمن الخميسي. وأول من دافع عن ديوان شعرك الأول، كان صحفياً شاعراً من أرض الكنانة أيضاً، اسمه كامل الشناوي، وهو أول من قدَّمكَ إلى توفيق الحكيم في مبنى جريدة الأهرام القديم. أخرج كامل الشناوي ديوان (المعركة) من درج مكتبه وقدمه لتوفيق الحكيم، وقال اسمع: أنا إن سقطتُ، فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح. كانت القصيدة عن عباس الأعسر، أول شهيد لحركة أنصار السلام المصرية في قناة السويس عام 1951 . صدر ديوان المعركة عن دار الفن الحديث في قاهرة المعز، ورسم لوحاته مجموعة من الرسامين: حسن التلمساني، حامد ندا، فريد كامل، صلاح جاهين. وبعد أن قرأ توفيق الحكيم الديوان طلب توقيعك عليه. وكُنتَ طالباً في الجامعة الأمريكية في القاهرة حين ظهر الديوان. وكتبت عنه بنت الشاطئ مقالة في جريدة الأهرام. في تلك الأيام يدخل صدقي باشا مبنى البرلمان وفي يده ديوان شعر للشاعر المصري كمال عبد الحليم وهو يصرخ: الشيوعيون في شوارع القاهرة. في ذلك الوقت كانت القصائد في شوارع القاهرة... تحية لك يا معين فأنت تدري كم نحبك.