«حالات» جبر علوان جداريات تشتعل ألواناً ومشاعر
بين الحلم واليقظة يبدو الليل أكثر حياة إن لم نقل إنه كل الحياة المشرقة بالألوان في أعمال الفنان التشكيلي العراقي جبر علوان الذي يقيم معرضاً استعادياً لنتاجه في عنوان «حالات» في مركز بيروت للمعارض (سوليدير - البيال) يستمر حتى 23 شباط (فبراير) المقبل، متضمناً مختارات من لوحاته الموقعة ما بين 1984 - 2013، تجسد في غالبيتها محطات من موضوعاته الأثيرة التي تدور حول تيمات: الوحدة والمقهى والموسيقى والرقص.
يأخذنا جبر علوان عبر خمس وستين لوحة جدارية إلى فانتازيا الرؤى التعبيرية الحالمة، كاشفاً عن تجليات جموح المشاعر الداخلية لشخصيات لوحاته التي يدخلها في صراع بين جدلية العتمة والنور حتى لتبدو أنها داخل أروقة من مناخات مسرح مكشوف يقطف فيه الضوء أزمنة كيميائية اللون في أقصى حالات الوهج والدفء والصخب والرومانسية. إذ إن اللون يروي فصولاً من لحظات تذكارية مقطوفة من تداعيات مناجاة السيرة الذاتية التي سرعان ما تكشف عن دخائل أحوال «المونولوغ» الداخلي للشخصيات المرسومة. ومسرحة الأحوال التي لا تكتم الأشـياء ولا تـتجـاهلـها، بل تجعلها أسيرة نشوة الطرب اللوني والعواطف الجياشة الغارقة بالشغف والحلم والمزاج المتوقد والطباع الغريبة والخوف والوقوف على شفير الهاوية. كأن كل لوحة يرسمها جبر علوان هي قصيدة لونية لأحلام حزينة بالغة الحزن أو لمشاعر متلاطمة تحتفل بترنيمة الوحدة والعزلة والأمل ونشوة الرقص والعزف. فهو يناجي وقائع الذكريات: المرأة والغرفة والمقهى والمسرح والعازف والمحترف، ويجعل من فصول مسلسلات لوحاته مجرد مذكرات لتجليات العواطف اللونية الحارة السائلة كالبراكين التي تغدو كل خيالاتها حية مثل المصائر التي تمثلها شخوصه.
إنها احتفالات شاعر يعرف كيف يقبض على تأملات الزمن الضائع عنوة، زمن الوحدة في الغرف الباردة وما يصحبها من متغيرات حين تنقلب الوحدة إلى صخب العيش تحت جنح الليل في أمكنة السهر والسمر والتلاقي في المقاهي الصاخبة، حيث الاستمتاع بالرقص والموسيقى تحت الأنوار الخافتة لهمسات العاشقين. لذا، يبحث عن رغبات العيش وسط مكايدات الحياة (الحزن والألم وطقوس العزلة)، سلاحه الوحيد الشغف اللوني المشتعل بالحميّة والإثارة والتحكم، من خلال السفر في أبعاد العواطف المتأججة والضائعة. كما لو أنه شاعر الأهواء المتوهجة والأمزجة الملتهبة، حين تتباعد الجفون وتنأى عن ضفاف الأوطان الضائعة في صمت الهجرات. فكل لمسة هي ذكرى وفي ذروة القلق الهادئ تصدح مدائح ألوان الليل وحالات التقوقع والتلاشي التي تجسدها النسوة بأجسادهن الممددة في فراغ عدمي من فرط الانتظار وسط دفقات من أضواء الساعات الهاربة السريعة العطب والانكسار. فاللون في لوحاته هو الأكثر عبوراً إلى المشاعر والأكثر حضوراً وإضاءة ولوعة، لأنه يشرع النوافذ على معارك العواطف الداخلية المحتدمة وغير المرئية المكبّلة بعنف الرؤيا المجسدة عراء العوالم الخرساء، عوالم المنفيين والمتروكين والهائمين على وجوههم تحت جناح الغربة والاغتراب.
إنها عوالم النسوة اللواتي يتلاعب بإيماءات أجسامهن السأم والقلق والفرح غير المنظور. لذا، فالأجسام ذات طبيعة لينة مثل عجينة طيّعة مثيرة قابلة للتمدد والارتخاء تحت حرارة الريـشـة اللاهثـة بقوة نحو التعبير بشراسة عن جريان الأشياء وتدفقها وانبعاثاتها وأحلامها وجمرها.
هكذا، تبدو المرأة الممدة على الفراش مستسلمة للحلم الوردي في فضاء من نور رمادي شاحب، أو تتراءى بثوبها الأحمر على سريرها الأرجواني، تعصف بها حركة مباغتة، ما هي إلا النور الأصفر الساطع الذي يجـعلها تـذوب كقالب من الزبدة، من فرط طلاوة الحب المحموم وأهواء الرغبة التي تستبد بالفراغ القاتل لجدران الغرفة.
تكاد تكون المرأة موضوعاً أثيراً في مفارقاته الشعرية الرومنطيقية، بقَدريّتها وعزلتها وانتظارها وهي تبدو متلاشية ومسلوبة، تتكئ على مسند أو كنبة أو فراش، تجلس أو تستريح أو تستلقي أو تقف خارج الزمن في لحظة رجراجة ما بين البهجة والحزن وما بين السكون المطبق والتفجر اللوني الصارخ. فاللون لا يتطابق مع الشكل، بل يلتهمه في تعبيره عن مناخ المزاج - العاطفي في خضم تجليات المنظور الفراغي وطقوس شهيته اللونية التي تتبلور كسجل حافل من التباسات الغموض والبهجة وجحيم الملذات. إلا أن السكون الشاعري الذي يخيم على حجرات النساء في عزلتهن، تقابله الحركات العاصفة لراقصات التانغو، حيث تهيم الأجساد والسيقان المشرئبة من قوة الانفعال بين حرائق اللون وظلام المكان، في الزوايا المنفرجة يلعب في الخفاء حذاء أحمر بالكعب العالي.
المبالغة والتضخيم والتحوير والإثارة هي بعضٌ من أسرار كثيرة تنطوي عليها أعمال ذلك الفنان البغدادي المولد والنشأة (من مواليد عام 1948) صاحب الذائقة الأوروبية والثقافة العربية المشرقية. هاجر إلى إيطاليا منذ العام 1972، حيث نال إجازة في فن النحت من أكاديمية الفنون الجملية في روما في عام 1975، لينصرف منذ ذلك الحين إلى الرسم ويجول في معارضه متنقلاً بين العواصم العربية والعالمية حاصداً الكثير من الجوائز. ولئن كان جبر علوان بعيداً من قاموس المعاصرة، إلا أنه يعتبر من الرسامين التعبيريين والملونين الكبار الذين كرسوا في نتاجهم مناخات حلمية ذات جمالية تتصف بالشعرية البصرية في مرحلة ما بعد الحداثة. فقد منحته بلدية روما في عام 1985 جائزة أفضل فنان رسم إيقاعات الحياة اليومية في روما بشوارعها ومقاهيها وحاناتها ومسارحها. هذه الإيقاعات التي تأخذنا إلى عالم رواد المقاهي الذي يجسده لنا جبر علوان غالباً بأطياف الرمادي والأسود حيث الظلال لا تعد ولا تحصى، غير أنه يتعمّد أن يرمي في وسط المشهد بقعاً من النور مع لطخات من الأزرق والأحمر كافية كي تجلو غموض المكان. هكذا، تبدو قيمة اللون ليس بكونه وصفاً لما يُرى بل غلواً في التعبير الشعوري عمّا يختبئ في أعماق النفس من أحاسيس مضمرة.
في أعماله شيء من العبث الوجودي والفضاء المسرحي الآسر بمناخاته، لسبب إيحاءت الإنارة وسطوة الألوان والفراغ المكاني وتسلسل درجات القتامة. فالرسام منغمس أقصى الانغماس في عالمه الخاص، لا يرسم إلا ما يعيشه بحواسه وشغفه ورواء خياله ولذائذ استدعائه النابض لمناخات حياة الليل التي يداوم عليها ويغب منها حتى الثمالة، بل يستنبط من أحشائها موضوعاته، لينقلها على قماشاته الكبيرة التي يصورها بشغف ودهاء لوني يتفاوت بين التعبير عن السرور والدهشة المباغتة والدرامية القاتمة ونار الشهوة العارمة، لا سيما حين يستضيف إلى الأحمر الأرجواني النور الساطع للأصفر والأسود الحالك وأخضر السندس.
يشعر الناظر إلى أعمال جبر علوان بأنه على مسافة قريبة من ميراث تاريخ التصوير الغربي العريق وذاكرة فنون المتاحف. فالذوقية المتحكمة في غالبية أعماله تعتمد على قوة التضاد ما بين العتمة والنور، هذا التضاد المنبثق من عمق ميراث عصر النهضة، وكثيراً ما تتراءى أطياف المصور الإسباني غويا في المعالجات الإنسانية بفحواها التعبيري العميق، وكذلك رونق حياة المقاهي لدى الانطباعيين، ووقوف النساء على الشرفات لدى المستشرقين، انتقالاً إلى راقصات الباليه في لوحات إدغار دوغا، وفي شكل خاص تنقلنا أعمال جبر علوان في شكل جارف إلى نزق تولوز لوتريك الذي قضى حياته هائماً في بيوت الليل التي تضج بعالم النسوة والرقص ونشوة الموسيقى، كما يحضرنا الأصفر الذهبي بكل أبهته التي أوجدها فراغونار ليعكس من خلاله ثراء الفرش والبطائن الحرير وفخامة اللباس في عصر الركوكو الذي مجّد عالم المرأة داخل مخدعها الوثير. لكن جبر علوان قادر في احتفائه باللون والنور والمرأة وحياة الليل، على اصطحاب تلك الذاكرة إلى سحره وأوهامه وأحابيله التي ينصب شراكها بين جدران محترفه في روما الذي يشهد على وحدته أكثر من وحدة نسائه وزوار الليل الذين يقرعون مثل الشتاء أبواب أحلامه.
المصدر: الحياة