شذرات عن اللامساواة
عروة درويش عروة درويش

شذرات عن اللامساواة

أولى المستوطنات البشرية: إنّ تحقيق أكبر قدر من المساواة شرطٌ مسبق للمستوطنات البشرية الأولى. فاستيطانك لمنطقة ما وزراعتها، يتطلب منك درجة معينة من التعاون، الذي لا يمكن الحصول عليه إن كنت أحد الأقوياء الذين يضغطون باستمرار على الضعفاء. يجب زراعة المحاصيل، ومن ثمّ تخزين فائض صغير والحفاظ عليه أثناء فصل الشتاء، وفي حالات الجفاف. 

لكن وبمجرّد جمع الفائض وتكديسه، لن يكون للفلاحين الذين كانوا إلى وقت قريب صيادين-جامعين، أية سلطة مباشرة على الفائض. وستنشأ مشكلة أنّ القيمين على الفائض سيحصلون على سلطة تفوق سلطة الآخرين.

ولكن حتّى تحافظ الجماعة على بقائها وتطورها، فلابدّ من طريقة معينة للحفاظ على مستوى فاعل من المساواة بين أفرادها. لابدّ وأنّ المجموعة قد خرجت بحلّ ما، من أجل تحقيق هذا الغرض. يمكن رؤية شيء شبيه بذلك في عصر أقرب من المستوطنات الأولى، وبشكل نقي بين المجموعات القبلية التي كانت سكنت الساحل الشمالي الغربي لقارّة أمريكا الشماليّة. 

لقد استخدمت تلك المجموعات الاحتفالات المسمّاة «بوتلاتشPotlatch « من أجل إعادة توزيع الثروة أثناء التجمّع مع بعضهم البعض. استخدمت تلك القبائل عيد «العطاء» أو «الإهداء» كطريقة طقسية دورية لإعادة المساواة في الثروة بين أفرادها، كجزء من النظام الاقتصادي لهذه القبائل التي ملكت الأرض وما عليها بشكل مشاعي. كانوا يفعلون ذلك وهم يرقصون.

استعباد العمالة

الأهرامات وقصور بابل

لا تترك المجتمعات المتساوية الأعمال هائلة النفقات آثاراً على وجودها. فالمجتمعات التي كان الناس يعيشون فيها بشكل جيّد هي المجتمعات التي تركت أقلّ الآثار على وجودها: فقط عظامها وبعض الممتلكات الأساسية على العموم. حضارة وادي الهندوس مثالاً.

تقع حضارة وادي الهندوس التي تعود إلى العصر البرونزي في جنوبي آسيا، وقد زامنت هذه الحضارة حضارتي المصريين القدماء ووادي الرافدين. اشتهرت هذه الحضارة بأنّها لم تترك وراءها قصوراً. لماذا سيودّ الناس في مجتمع متساو أن يضيعوا حياتهم في بناء آثارٍ ضخمة؟ لقد تمّ بناء تلك الآثار الضخمة إمّا لامتصاص العمالة الفائضة، أو لإظهار التفوّق، حيث إنّ التفوّق يبرر القيام بالغزو والاحتلال.

إنّ الطريقة الوحيدة كي تتمكن من إقناع مجموعة من الناس من ذوي التفكير الحر ببناء أثر ضخم هي في استعباد العمّال. ولا أتكلم هنا عن الاستعباد الجسدي وحسب، بل عن الاستعباد الاقتصادي والعاطفي كذلك. هذه هي الطريقة الوحيدة كي تقنع هؤلاء الناس ببناء شيء ليس له أي غرض نافع واضح أو عديم الجدوى... كالأهرامات مثلاً.

كلّ الطرق تؤدي إلى روما

اعتدنا أن نقرأ بأنّ روما شكّلت تحولاً في مسار التاريخ والإمبراطوريات. ولكن هل كان هذا التحوّل للخير أم للشر؟ تشير الهياكل العظيمة التي وجدت في الأماكن التي وقعت تحت السيطرة الرومانية، بمقارنتها مع الأماكن التي بقيت تحت السيطرة القبلية والأقل تمدناً، لكونها أقلّ صحّة وأكثر عرضة للأمراض. ليس ذلك فقط: فروما التي كانت مثالاً للامساواة بين مواطنيها، والتي تكرّست في كثير من الأوقات في قوانينها المدنية والدينيّة، قد أثّرت بأسلوبها الاقتصادي على الابتكار في المناطق جميعها التي بسطت عليها نفوذها.

لقد تراجعت الصناعات المهاريّة والابتكارات عموماً في منطقة حوض المتوسط، وفي وسط أوروبا في الحقبة الرومانية، وازداد الاستيراد على حساب الصناعات الداخلية. استطاعت الصين الأكثر مساواة في نظامها الاقتصادي تطوير صناعة الخزف والعربة اليدوية والطباعة والبارود، بينما تحوّلت الدولة الرومانية، وجميع المناطق التي وضعت يدها عليها، إلى مستوردة للمنتجات والابتكارات الصينيّة.

المساواة تخفف من الأمراض

ورد في كتاب: «الشعوب شبه الكاملة تقريباً» لمايكل بوث:

«إنّ الشيء الأكثر رسمية، والأكثر تأثيراً سياسيّاً، والأكثر شهرة، الذي استخدم مقياس جيني للعدالة والمساواة تمّ نشره في عام 2009 من قبل عالمي الأوبئة ريتشارد ويلكنسون وكيت بيكيت في كتابهما: «الصعيد المعنوي، لماذا العدالة أفضل للجميع». استخدم ويلكنسون وبيكيت إحصاءات عديدة ذات مصادر مهمة، كالبنك الدولي والأمم المتحدة، لمقارنة اثنتين وثلاثين من أغنى دول العالم. وقد وضحوا، بدعواهم، بأنّه من الوجهة النظرية والعملية، فإنّ المجتمعات التي تسودها المساواة، هي أفضل في كلّ شيء من تلك الفاقدة للمساواة. 

صفحة بعد صفحة، من خلال جداولهم المحفوظة حقوقها لهم، ويلكنسون وبيكيت شقّوا طريقهم بصعوبة لإثبات النتيجة التالية: إن التوزيع غير العادل للثروة هو المسبّب الرئيس للمشاكل الاجتماعية جميعها التي نواجهها في الغرب. من البدانة إلى الجريمة، مروراً بإدمان المخدرات، والأمراض العقلية، والكآبة، والإجهاد النفسي. بشكل حاسم، ليس مدى الفقر أو الثراء هو المشكلة، بل الهوّة في نسب الدخل بين الأدنى والأعلى هي لبّ وجوهر المسألة. إذاً، الشعور بالعوز يختلف بشدّة بين بريطانيا وكمبوديا على سبيل المثال. فحقيقة أنّ نسبة الذين يملكون جلّايات صحون في منازلهم أكبر، مثلاً، هي ليست بأيّ شكل ضمانة على أنّ معدل الجرائم سيكون أقل، أو أنّ الناس سيكونون سعداء وأصحاء أكثر. وكما أشارت النيويورك تايمز في تقديمها للكتاب:

(إنّ الولايات المتحدة أغنى، وتنفق على الرعاية الصحية أكثر من أي بلد آخر. مع ذلك فإنّ الطفل المولود في اليونان، حيث معدل الدخل يقارب نصف معدلات الدخل في الولايات المتحدة، هو أقلّ تعرضاً للخطر، وتقديرات عمره أطول من الطفل الأمريكي.)

وبشكل افتراضي، فإنّ جميع رسوم ويلكنسون وبيكيت البيانية تظهر الدول الأقل مساواة بين مواطنيها – الولايات المتحدة وبريطانيا والبرتغال بشكل غريب – حيث يجني الـ 20% في القمّة أكثر بتسع مرّات ممّا يجنيه الـ 20% في القاع. بأنّها البلدان ذاتها التي تعاني من مشاكل اجتماعية لا تنتهي، بينما تتمتع البلدان الأكثر مساواة بين مواطنيها بسجلات أنظف فيما يخص كامل رزمة المشاكل الاجتماعية.

إحدى أكثر استنتاجاتهم تطرفاً هي أنّ عدم المساواة يترك إجهاداً نفسياً على الفقراء والأثرياء كليهما معاً، فكلما كان المجتمع أقل عدالة ومساواة، كلّما كانت الثروة الفردية أقلّ فائدة. الضغط النفسي جرّاء اللامساوة لا يزرع الحسد وحسب، فهو لا يجعلك تحسد جارك على سيارته الأودي وانتهى الأمر. اللامساواة تجلب الاكتئاب، والإدمان، والإحباط. كما أنّها تجلب الأمراض الجسدية مثل: العجز المبكر. وهذه الأعراض تشمل كامل السكان. بكلمات أخرى، إنّ سعادة الفرد، فقيراً أم ثرياً، تؤثّر على البقية بشكل تبادلي. فإن كنت شخصاً ثريّاً بين فقراء، فهذا سيجهدك نفسياً. فهو سيضطرك لتكون تنافسيّاً، وستكون متخوفاً دوماً من ثورة تأخذ منك ثروتك. (في السياق ذاته، إنّ إنفاق الشركات على الإعلانات يزداد في الدول، التي تسود فيها اللامساواة الاقتصادية. لأنّ الناس يصبحون ميّالين أكثر للتأثر بالرسائل والمحتويات الإعلانية).».

معلومات إضافية

العدد رقم:
826