الرَّقص في حقول البرتقال
سوريون من شمال بلاد الشام, من كل الملل والنحل, فينا العربي والكردي، والشركسي, والتركماني, والآشوري, والكلداني, والسرياني, والأرمني, كُلُّنا عَبَرنا من الشمال إلى الشمال.
وها هو جمعنا المكلَّل بالسلال الفارغة يعبر دروباً ضيّقة لحقول واسعة فسيحة من شجر البرتقال على ساحل بحر إيجة في ريف مدينة أزمير حيث نُطلُّ من شاهق على جيراننا الإغريق في اليونان الحديثة. الواحد منّا مثل طائر وحيد، أضاع اتجاهه، أنهكه صوت أزيز الطائرات، وها هو بلا عشِّ، يحطُّ منكمشاً، على غصن أجرد يابس، يضايقه البقاء هنا، ولكن إلى أين يطير؟ وما من ركن أخضر يأوي إليه، أو مكان يُقيم فيه عشَّاً مؤقَّتاً على الأقل. نحن هنا في مدينة أزمير علَّقنا أحلامنا على مشاجبها، وتركنا بسُقُوف بيوتنا في شمال الشام، بصلاً، وبامية، ورماناً، وتيناً يابساً، وثوماً للشتاءْ، تركنا حليباً في أَضرع مَاعِزِنا، وتركنا رفَّ حمامنا المنزليّ بلا ماء، ثمَّ عبرنا جسر الموت.
ها نحن نسير في غبش الصبح عبر دروب ضيّقة بين صفوف شجر البرتقال، والشاويش «محمد» يحثّنا على العمل بصوت رخيم «هايدي أبي» بسرعة يا أخوتي، «الشمس تميل، والهواء عليل، والبرتقال جميل». كنّا طيِّبين وساخرينْ، لا نعرف الرَّقص والمزمار إِلاَّ في أعراس بناتنا وطهور أولادنا. كنّا تعوَّدنا زراعة النعناع في فسحة من حدائق منازلنا، و «كلُّ منزل في الأرض يألف الفتى وحنينه دائماً لأول منزل» و كنّا تعلَّمنا زراعة البنفسج في أغانينا، وفي أحواض قبور موتانا. نحن هنا في الغربة، وهي أمكنة تُغيّر أهلها وزمانها، وهي الوصول إلى السواحل فوق مركبة أضاعت شراعها. يا بحر إيجة، عُدْ بنا يا بحر. متى تُعيدنا أيها البحر القديم إلى بلاد الشام؟ والشام شام لكلِّ زمان، أعدنا يا بحر إيجة، ثمَّ تابع البحث عمّا ضاع من زوارقنا، عن أطفال أصبحوا شجراً من المرجان في القيعان. كم كنّا نُحبك يا بحر إيجة حتى رميتَ أطفالنا غرقى على رمل سواحلك، والشاهد الشهيد أصغرنا «إيلان كردي».
كُنّا هناك، والآن نحن هُنا، في حقول البرتقال، نُعلّم الأقدام كي تألف الرَّقص الخجول مع الحجل، فالمنافي هي المنافي، هنا، وهناك. هل تذهب منافينا سدى؟ أم نتعلّم الرَّقص في حقول البرتقال، ونتعلّم البكاء على مهل لئلّا يسمع الأعداء ما فينا من دهشة الروح وهشاشة البلور المكسّر. يا بحر إيجة كم من زمان مرّ كي نجد الجواب عن السؤال الأخير؟ والسؤال هو الجواب، من زهر البرتقال تولد حبات البرتقال، ولا شمس تحت الشمس إلا نور قلوبنا يخترق ظلال الشجر، والبرتقال يضيئ جباهنا وأكفّنا، وتقول جارتي في الشجر المجاور: أما كفانا اليوم برتقالاً؟ من نحن يا بحر إيجة؟ هذه أشياء غربتنا: سلال البرتقال، زوّادة الفقراء، مقصَّات من حديد، إبريق ماء، أعشاب ترفض الموت في الشتاء. هل نستطيع إعادة الماضي إلى اطراف حاضرنا؟ هل نستطيع غناء أغنية ونرقص في دقيقة مسروقة من وقت الشاويش «محمد»؟.
بأيّة أسلحة تصدّ الروح حنيناً إلى ديار تركناها معلَّقة على حبل الغسيل في عصف الريح؟ بأيّة أسلحة نكبت الشوق إلى خبز تنور أمّهاتنا؟ يا بحر إيجة، من يلمّ غسيلاً تركناه أشباحاً معلَّقة على الحبال في صحن الدار؟ نحن لم نذهب بعيداً ولم نصل، لأن قلوبنا حبات لوْز مضرَّجة في أزقة حارات شعبية منسيَّة، وكلَّما قلنا وصلنا إلى آخر الدرب الطويل خَرَّ أولنا. أيها البطل ابتعد عنّا قليلاً نحو نهاية أخرى، أيها البطل المضرَّج فينا، قُلْ لنا كم مرة ستكون غربتنا البداية والنهاية؟ و صاحبنا في قطاف البرتقال «حنّان» يؤلف همساً ويُتحفنا بملحة أو «نكتة» لا فرق بين الكلمتين، يقول: تشاجر كلب وشاب سوري في ساحة بازار «ليمون تَبي» الحيَّ الريفي الجميل المعلق في السفوح الجبلية لمدينة أزمير، كان الشاب يُقدم إذا رأى الإقدام عزماً، ويُحجم إذا رأى الإحجام عزماً. أدمى الكلب الشاب، وأدمى الشاب الكلب، كانا يتحاربان، وأُثْخِنَ كلاهما بالجّراح، وفي نهاية المعركة، تضرَّجا بسيل من دماء. أخبر الجيران سيارة الإسعاف، جاءت، حمل المسعفون الكلب على عجل، وقالوا للشاب السوري: انتظرنا لن نتأخر في العودة.
تُعيدنا حكاية «حنّان» في نهايتها إلى زمن الفكاهة والمسرّات الصغيرة والأوجاع الكبيرة، وهنا، يا بحر إيجة، تدخل مأساتنا في ملهاتنا، ويقول «حنّان» وهو يرقص مع الشاويش «محمد» في فسحة بين أشجار البرتقال: «لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً، فالطير يرقص مذبوحاً من الألم». ها أنا ذا ألملم شعث دفر مسودتي المغبرّ من تراب حقول البرتقال، وأقول لصغيري إبراهيم حين يسمع صوت أزيز الطائرات في سماء المدينة: لا تخف يا ذا «الأنيف الأكشم» هذه الطائرات مدنيَّة.
من نحن يا بحر إيجة؟ نحن المنسيّون في زمن الحرب الضروس. لنا الله يا بحر، نحن نفرح عندما يأتي نهار واحد لا موت فيه. وهُنا أذكر حديث رسول الله «ربَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره». والآن يا بحر إيجة، ها شمسك في غروب، ونوارسك مَلَّتْ من التحليق في الأفق، فدعني أجمع أوراقاً شعثاء متناثرة من قصيدة محمود درويش «مأساة النرجس، ملهاة الفضّة» التي اعتمدتها لضبط إيقاع المقال، فما عدتُ أرى حروف الكلمات جيداً، كي أُتابع الكتابة...فالدموع تحجب الرّؤية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 812