نبض الفرات في ثقافي أبي رمانة
شهد المركز الثقافي في أبي رمانة، أمسية شجنٍ شعري، وشجنٍ موسيقي غنائي، تحت عنوان (نبض الفرات) أقيمت أمسية شعرية غنائية يوم الاثنين 16/5 جمعت كلاً من الشعراء يونس السيد علي، وعلي عبد الجاسم، وصبا بعاج، وخالد العون، وأبي بكر عبد العزيز، وكان ضيف الشرف الشاعر الفراتي محمد عبد الحدو، والفنان عبد الوهاب الفراتي غناءً وعزفاً على العود، والفنان حسين حداوي غناءً.
لمّة فراتية.!
امتلأت قاعة المركز الثقافي بمختلف الشرائح الاجتماعية من أبناء دير الزور، جاؤوا على وقع الحنين والشوق، لنهرها وجسورها الشهيدة، وأهلها المشردين، كما كثير من أبناء المحافظات السورية التي كانت، مرتعاً للعنف، وهذه اللّمة الفراتية الشعرية ليست غريبةً، فأحد أسماء دير الزور الشهيرة (دير الشُّعّار) لكثرة الشعراء فيها.
الـ «أبوذية» كانت هناك
ألقى كل شاعرٍ ثلاث قصائد عموماً، غلب عليها الشعر العمودي، مع قصائد من الشعر الشعبي باللهجة الفراتية، مع بعض الردّيات، والحوارات الشعرية بين المشاركين، التي تسمى (الأبوذيات) بين الشاعرة صبا بعاج، والشاعر خالد العون، والأبوذية لون فني من الشعر الشعبي الغزلي، كما الزجل، مشتركة ما بين شرق سورية والعراق، وهي عبارة عن ثلاثة أشطر متجانسة، وتنتهي بروي (ية) أو (يا) وكذلك مع بعض الأبيات من (الموليا الفراتية) مما أضفى على الأمسية جواً من الحيوية والحنين أبكت البعض، بسبب معانيها، أو بسبب أسلوبها، الذي يطبع اللهجة الفراتية بالحنيّة، أو ما يُسمى (الدفو) أي الدفء والحميمية، نتيجة ظروف البيئة الصحراوية القاسية، ووجود نهر الفرات الذي يمنح الحياة، والإرث التاريخي من معاناة الظلم والقهر، وكذلك أثرت في الغناء الفراتي والموسيقا ليس في المنطقة فقط، بل في الشرق العظيم كله ولدى شعوبه المختلفة، والذي يمتد من بحر قزوين إلى المتوسط عموماً، بسبب التكوين الموسيقي بكثرة المقامات وتفرعاتها وتنوعها، ووجود ربع العلامة الموسيقية، التي تمنح الغناء والموسيقا الشرقية شجناً مؤثراً، تفتقد الموسيقا الغربية الكثير منه.
بعض القصائد تناولت: التغني بالوطن ورموزه، والهمّ الوطني، ومعاناة السوريين ككل، والحنين كقصيدة علي عبد الجاسم (هواي من وطني التراب) وأبي بكر عبد العزيز (يا شام) وبعضها تعبر عن الأمل الذي لم ينقطع بانتهاء الأزمة السورية وعودة المهجرين، وانتظار بناء سورية الجديدة، كقصيدة يونس السيد علي (غداً تُشرقُ الشمس) وقصيدة الشاعر علي عبد الجاسم (بحثت عن الفرح) أو في التعبير عن كرامة الشعب السوري ومعاناة السوريين عموماً وأهالي دير الزور خصوصاً، من التشرد والتهجير والحصار، كقصيدة يونس السيد علي(حنايا الغيث) وقصيدة خالد العون(عفوأ عمرو بن كلثوم) وهي محاكاة لقصيدة عمرو بن كلثوم مع عمرو بن هند، وقصيدة الشاعر الضيف محمد عبد الحدو عن (الحصار) كما تناولت بعض القصائد الشعر نفسه ودوره في التعبير، كقصيدة (بين ظلال الحروف) لعلي عبد الجاسم، وقصيدة (لم ينتهِ عهد القصيدة) لصبا بعاج، كما ألقيت بعض القصائد الغزلية بالفصحى كقصيدة أبي بكر عبد العزيز (لا تستبيحيني) وباللهجة الشعبية كقصيدة صبا بعاج (لا تهوني) والملاحظ: أن القصيدتين تبدآن بلا النافية تعبيراً عن عدم الاستسلام للظلم حتى ولو كان من الحبيب، فكيف من الآخرين والأعداء. وهذا لا ينفي وجود بعض الهنّات في لفظ الكلمات، لصعوبة إتقان اللهجة الشعبية. ومع ذلك كانت القصائد كرنفالاً شعرياً فراتياً بتعدد مواضيعها، وتنوع أساليبها، مما أمتع الحضور الذين تفاعلوا معها.
نبض الفرات الغنائي.!
أبدع كلٌ من الفنانين عبد الوهاب الفراتي غناءً وعزفاً، والفنان حسين حداوي غناءً، وخاصةً أبيات العتابا، سواء كانت الغزلية التي تسمى (هواويات) أو المعبرة عن الغربة والتهجير والتي تسمى (فراقيات) وكانت نجمة الغناء (الموليا) فقد شارك حتى الحضور في تردادها ككورال.
مستويات متفاوته
غلب على القصائد الشعر العمودي وأبحره الكاملة، التي تفرض إيقاعاً رتيباً ووزناً ثابتاً وقافية محددة، بالإضافة لبعض مواضيع القصائد واللهجة الفراتية القريبة إلى الفصحى كثيراً مع جزالة الألفاظ والنطق السليم لمخارج الحروف الذي يتميز به أبناء الفرات وخاصةً التاء الصفيرية، وهذا ما فرض أسلوباً شبه خطابي لدى البعض، وأفقد الشعر غنائيته وموسيقاه اللتين هما أهم ما يميز الشعر، وكان من الممكن التغلب على ذلك وكسر الرتابة باللجوء إلى مجزوءات البحور الشعرية، أو بالإلقاء، عبر التلوين الصوتي، بما يتوافق مع الحروف المهموسة أو النبرية، رغم وجود الصور الفنية الجميلة المستوحاة من البيئة الفراتية، وهذا يحتاج إلى خبرة وخيال، وهو ما لم نلمسه لدى البعض في بعض قصائده، وانسحب حتى على بعض الغزليات، بينما نجح البعض وتميّز بإلقائه فكان تأثيره أكبر.
همسة عتب!؟
رغم بعض الفوضى التي واكبت الأمسية، فقد كانت عبارة عن لمّة فراتية، ونبضاً فراتياً غنياً، سواء شعرياً أو موسيقياً وغنائياً، نقلت الحضور إلى ضفاف الفرات، وعرفت الكثيرين على التراث الفراتي الأدبي والفني والشعبي، والعُمُق الوطني له، وترابط ذلك كله مع الإرث التاريخي لدى الشعب السوري ككل.
في النهاية، لا شكّ أنّ الأمسية لا يمكن تغطيتها بهذه الكلمات فقط، وتحتاج إلى مساحةٍ إعلامية أكبر، لكن الملاحظ غياب وسائل الإعلام الرسمية عن مثل هذه النشاطات، باعتبارها ضرورة لعكس التنوع الثقافي في البلاد، والمساهمة في إزالة كثيرٍ من الشوائب الموجودة قبل الأزمة وأثنائها، والكشف عن الإبداعات وتشجيعها، لتعزيز الوحدة الوطنية.
تحية لكل من ساهم في هذه الأمسية واللّمة الفراتية، ولكل من شارك فيها، وكذلك من حضر، سواء كان أمتع أم استمتع، وخاصةً الذين ليسوا من أهالي الفرات، والذين تفاعلوا وتأثروا بما سمعوا وشاهدوا، هذه الأمسية ساهمت ليس بالتعريف بالمنطقة الشرقية عموماً، ومحافظة دير الزور خصوصاً، المحافظة المنسية والمهمشة، وتحديداً فنياً وإعلامياً من الإعلام الرسمي، سواء من خلال تنميطها، أو من خلال تجاهلها، كما ساهمت في إزاحة جزء من الغمامة التي صورها الإعلام المعادي، خلال سنوات الأزمة، وكشفت عن مدى تمسك أهالي دير الزور بوطنهم، وإرثهم التاريخي في مواجهة الاستعمار الفرنسي سابقاً، ورفضهم للقوى الظلامية والفاشية حالياً، كما كشفت عن الجوانب الإبداعية الثقافية والأدبية والفنية لهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 811