«عن كتاب ما لا يستطيع المال شراءه»
عروة درويش عروة درويش

«عن كتاب ما لا يستطيع المال شراءه»

تصوّر طابوراً طويلاً من الأشخاص الواقفين للحصول على تذاكر حفلة ما، أو لانتظار تفقّد جوازات سفرهم في المطار. مجرّد التفكير في هذا الأمر يرهق الخيال، فكيف إن كنت مضطراً للوقوف في هذا الطابور؟ ومن هو الذي فضّل الشخص الأول في الطابور؟ هل لمجرد وصوله أولاً يجب ألّا يعاني ممّا أعاني؟

حسناً. تصوّر الآن أنّ بمقدورك أن تدفع المال لقاء تخطي هذا الطابور والحصول على النتيجة ذاتها ؟ هل سيكون هذا صائباً؟ بالتأكيد سيكون صائباً إن كان بمقدوري تحمّل هذه الكلفة. لكنّه في الوقت ذاته سيكون أمراً مزعجاً لذاك الشخص الذي وصل أولاً وليس بمقدوره تحمّل الكلفة، فسيضطر عندها أن يقف خلفي وينتظرني حتّى أفرغ، ولن يفيده نشاطه بالقدوم في وقت أبكر. لكن حتّى إذا افترضنا أنّ لديّ أنا وهذا الشخص القدرة نفسها على تحمّل تكاليف تخطي الطابور، أليس مجرّد استبدال قاعدة تنظيمة غير سوقية، كالطابور بقاعدة تحكمها الأسواق كالمال أمرٌ مخزٍ ومفسد للقيم التي تزرعها ثقافة الطابور لدينا؟

الأمثلة في الأعلى هي جزءٌ من كتاب ما لا يستطيع المال شراءه لمؤلفه الفيلسوف «مايكل ساندل»، وهو الذي لا ينفكّ عبر الكتاب يُسقط هذه التساؤلات على حالات واقعية تظهر تزايد تحكّم «قيم السوق ومنطقه» في أمور حياتنا التي كانت محكومة من قبل بقيم غير سوقية.

لكنّ ساندل لا يبخس الأسواق حقّها، ولا يتحمّس لها في الوقت ذاته، فبحسب قوله: «ليس هناك سبب لافتراض أنّ أحد المعايير، الطابور أو المال، يجب أن يحكم تخصيص البضائع جميعها» .

لكنّ هذ الكتاب الممتع والمنشّط للعقل لا يقتصر على مسألة الطوابير وحسب، بل هو مليء بالأمثلة عن النزعة التجارية، التي باتت تملأ العالم، ومن بينها بيع الإعلانات على سيارات الشرطة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وسمسرة التذاكر في مشافي بكين العامّة، ودفع النقود للنساء المدمنات على المخدرات كي يعقمن أنفسهن في الكثير من الدول حول العالم، والكثير من الأمثلة التي قد نراها تمادياً وتعدياً لقيم السوق، على القيم الاجتماعية السائدة غير السوقية. 

يعارض ساندل بشدّة الاتجاه الاقتصادي الحديث نسبياً، الذي يعتبر أنّ القواعد والنظريات الاقتصادية قادرة على تنظيم وحكم جميع العلاقات البشرية. ويؤسس اعتراضه بدءاً من مسألة العدالة والظلم، وصولاً إلى الاعتراض القائم على إفساد الأمر محل التعامل نفسه. وهو يقول في هذا المجال: «يمكن لوضع ثمنٍ للأشياء في الحياة أن يفسدها. هذا لأنّ الأسواق لا تقوم بتخصيص البضائع وحسب، بل تقوم بتعزيز مواقف معينة تجاه الأشياء محل التبادل».

الحقيقة إنّ الأسواق قد تقود إلى نتائج تحسّن الرفاه، لا يعني بالضرورة نجاحها في تزويدنا بالقيم المدنية. يحاجّ ساندل، بأنّ سوقاً عالمية لتبادل الحقّ بالتلويث أمرٌ غير مقبولٍ أخلاقياً، وذلك حتّى لو أدّى إلى تخفيض الانبعاثات. ذلك أنّه سيعطب «معيارين اثنين: فهي ترسّخ موقفاً معادياً للطبيعة، وتقوّض روح المشاركة في التضحية، الضرورية لخلق أخلاق بيئية عالمية». 

كذلك يتناول الكتاب جوانب لتمدد الأسواق، يعتبرها الاقتصاديون نافعةً، ويحاجّ الكاتب في أنّها مفسدة. مثل: مجال العمل الذي يصفه ساندل «بالمراهنة على الموت»، والذي وصل الأمر بالتفكير السوقي أن اقترحت بعض الإدارات الحكومية إدارة بعض هذه الرهانات من أجل حماية الأمن القومي. أو مثل: حقّ الشركات بعقد بوالص تأمين على حياة موظفيها، وعائلاتهم في بعض الأحيان، دون أخذ موافقتهم حتّى؟ 

يعرض الكتاب بشكل يليق بفيلسوف ومفكّر رفيع الطراز، كيف أنّ السماح لمعايير السوق بحكم نواحٍ من حياتنا المدنية سيسمح للشركات والاستغلاليين بتحقيق المزيد من المال، وذلك دون حتّى تقديم خدمة اجتماعية تجعلنا نغضّ الطرف عن فداحة بعض هذه الممارسات. مثال: نقبل التأمين على الحياة مع أنّه يضع قيمة نقدية على حياة الإنسان لكونه يقدّم خدمةً اجتماعيةً للأسرة التي توفي معيلها، وذلك بالحؤول دون انهيارها المالي. لكنّ الكتاب يعرض لنا كيفية تحوّل التأمين على الحياة إلى وسيلة للتكسّب تجعل شخصاً لا مصلحة تأمينيةً له ينتفع من موت المؤمّن عليه، وبعدها تتشعّب التجارة لتصبح «تسويات على الحياة» ورهانات على الموت، ولتصل بعدها إلى قيام المؤسسات المالية بالاستفادة منها وبيعها وشراءها وعقد تأمينات عليها، والذي قد يوصلنا إلى أزمة مالية كالتي حصلت في عام 2008 بسبب الرهن العقاري. يقول ساندل: «نقرر في بعض الأحيان أن نتعايش مع ممارسات السوق المتآكلة أخلاقياً، في سبيل الصالح العام الذي تحققه. بدأ التأمين على الحياة كحلٍ وسطٍ من هذا النوع. فلحماية العائلات والأعمال من الأخطار المالية للوفاة المبكرة، توصلت المجتمعات على مضض خلال القرنين الماضيين، إلى السماح لأصحاب المصلحة التأمينية بحياة الشخص بالرهان على موته. لكن أثبت إغواء المضاربة بأنّه يصعب احتواؤه... تبعاً لشرعنة سوقٍ هائلة في الحياة والموت اليوم، فقد بدت الجهود الجبارة للتفريق بين التأمين والقمار غير مكتملة. فبينما تتجه وول ستريت بسرعة نحو تجارة سندات الموت، فإننا نعود إلى عالم التحلل الأخلاقي لمقهى لويد في لندن، مع فارق أنّ الرهانات على الموت ومصائب الغرباء تبدو مثيرة عند المقارنة».

ويختم كتابه بالقول: «وفي النهاية، إنّ الأسئلة حول الأسواق هي حقّاً أسئلةٌ عن الكيفيّة التي نريد بها أن نعيش مع بعضنا البعض. هل نريد مجتمعاً كلّ شيء فيه للبيع؟ أو هل هناك بضائع أخلاقية ومدنية محددة لا تقوم الأسواق بتشريفها، ولا يمكن للمال شراؤها؟».

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
804