الاستلاب والأثر
تلج بعينين زائغتين التماعة العناوين المكدسة على رفوف مكتبة ما لتبحثَ عصر فوران العناوين عن ضالة لكَ ووفق التجاور العابث لباعثيها المبددين بالوحل المنظم كظل جوفها الأبيض، تخلخلك العناوين المتزاحمة بين ساردٍ إلى هائم في غيب الشعر لكن هذا التجاور ربما يفضح وجود طيف حي لصلة هذه الأسماء المتضايفة.
لقد فاض القرن الماضي بالعديد من الصداقات المؤثرة بين سدنة الأدب والفكر، وكفلت حتماً هذه الصداقات قراءة مكثفة لمنتجهم الأدبي، فالرحيل خلف مستويات العلاقة النصية بين الأدباء يخلق قراءات تتراصص مع القراءات الأدبية في عافية المتعة والتشويق عندما تصبح الأبعاد المعرفية التي تقتات من هوامش الأدب والنقد مغامرة لذَّوِية لمطاردة العلامات أوالشذرات المسافرة من أثر نحو أعماق الآخر الحالكة.
لكن بأية رحابة قد نضجت وتسرمدت تلك الصلة؟ وهل صحت في أثر كل منهم؟ أم أنها نفيت تحت قيد الريشة الساهرة.
يحيلنا الفكر مابعد البنيوي إلى كينونات رشيقة تؤثث الخطاب الإنساني مثل التناص «ذاكرة النصوص في النصوص الوليدة»، والأثر «في حضور الغائب» وتحولات العلامة والدلالة، هذه الكينونات أظهرت شراسة في قراءة ناضجة للجسد النصي ورست كاستراتيجيات لوجستية في النقد الحداثي.
لذلك فطموح المقال هو الحبل التناصي المشيمي المباشر الذي غذى عملا من الآخر، الوجود الخالد للأثر في ليل الآخر القلق، لحظة تنكيلهم بلغة بعضهم كما نكلوا بخيال مريديهم، فذاك المستلقي في مشاطرة الغبار ربما أب، غير شرعي لمجاوره أو مخطوط لقتله وإطعامه للهباء بينما يلهيه بمزاحمة لطيفة في ضيق المكان أو وريثه نحو التوهان والنسيان «كم فردوس وهلاك ترشقه الكتب في تتابعها المشرع للا حسم».
فكل تجاورعارض امتحان لكشف مستور قد يقبع وراءه، والذي يُستلب على ضفاف مكتبة فقط الشك نحو الغامض والمحير من مصادفات العنونة، كأن تخاصرك مجموعتان تلاصقتا على شبح بغية قتله، شبح للذل والخيبة والهزيمة المبكرة والفقر.
مجموعتين بإمضاء موزع بين السياب والماغوط، والإمضاءان، رغم الصحبة التي حضنتهما في عتبات الستينيات، إلا أن افتراعهم لأجناس شعرية حداثية متباينة ثمَنَ الغبطة الراحلة بحثا عن حفرياتهم المحتجبة خلف مولودهم الشعري المختلف، فشيفرة التأثر في قاع أحدهم تنتظرمن يفصم قفلها.
وإذ ترنو بشرود نحو الرفوف ينوء الخشب بجيشين أعلاه، جيش من اللغة البرية والأرموزيات لسليم بركات، وجيش من الغرباء النهماء للزمن لمحمود درويش، أسفار تدنو بحذر كماضيين مطلقين لا كفضاءات خلاقة تواسعت عنهم، من نضال وتلمذة وصداقة شرسة ولثقل سحرهما، يشكل على المتسكعين في أكوانهم رصد اختباء أحدهم في خفايا الآخر، لكن تناصاتهم المتواربة كحقد سوف تنهمر في غفلة منهم كما لمح في الجدارية لدرويش مثلا، والتي نفثت بانفعال عاصف فألقت معها مخلوقات صديقه -المدمن على الريح- اللغوية.
إذاً فالرعب مصيرنا لو أيقظنا أغوار الشبكة النصية في تتبع رحلة العناوين نحو التجاور في مهد العالم، لكن عبر بعض المصائد المعرفية نعطل صفة العبث في ركونها، ليبعثرنا الافتراض صوب أثير الاحتمالات والممكنات، فاحذر أي تجاور عابث في مكتبة ما فربما ينجلي عن بوابة للزمن بين هذين العالمين المتضايفين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 544