أوراق خريفية عزة نفس

ترددتُ كثيراً في زيارته والقول له الحمد الله على السلامة..
كل أقاربه وأصدقائه ومعارفه حتى الذين صُنفوا من الدرجة العاشرة.. توجهوا إليه مسرعين لملاقاته وتقديم المجاملات الكاذبة له لكسب ودّه ونيل رضاه.. إلا أنا!

قالت لي زوجتي: يا زلمه! والله عيب عليك، القاصي والداني قام بزيارته إلا أنت! مع أنه قريبك وصديقك من أيام الطفولة كما تزعم!
قلت لها: سيقول الناس عني أنني زرته لغاية أو لمصلحة أو..
قاطعتني زوجتي مستنكرة: وليقولوا ما يشاؤون.. وهل مصلحتك تكمن في بقائك عاطلاً عن العمل؟ يا أخي تلحلحْ تحرّكْ، عسى ولعلّ يدبّر لك شغلة عمْلة تقينا غائلة الفقر والعوز..!
ولما كنت ضعيفاً بالدفاع عن موقفي، وتشتعل  بداخلي رغبة لقائه، فقد حزمت أمري وتوجهت إليه.
لدى استقباله لي كان في غاية الانشراح، ولحسن حظي فقد كان وحيداً. وبعد السلام والكلام سألني:

- أيه أبو وليد! لم تخبرني بماذا تعمل؟
- والله يا صديقي حالياً لا أعمل شيئاً..
- هذا يعني أنك مستغني؟
- (متنهداً بحسرة) ساترها ربك!
- أراك غير سعيد بهذا الجواب، هل تحتاج لشيء؟ قل لي بصراحة أبو وليد، أنا بمثابة الأخ لك!
- الحقيقة لا أدري ماذا أقول لك! منذ سنتين وأنا بحالة بطالة، وفرص العمل قليلة و..
- فهمت عليك خلص! شوف أبو وليد، لدي مجموعة من المشاريع والأعمال سأقوم بالبدء فيها بعد أن أفرغ من استقبال المهنئين بعودتي إلى البلد بعد غربتي الطويلة عنها. وسوف أحسب حسابك بأحدٍ منها ولا يهمّك أبو وليد، لا تأكل همّاً أبداً.
- ولكن يا صديقي كما ترى، فأنا أعرج، وأعاني من نقص تروية في القلب، ولا أستطيع القيام بأعمال مجهدة..!
- ومن قال أنني سأختار لك أعمالاً مجهدة!؟ (متفاكراً) مممم بسيطة، شوف أبو وليد باعتباري أحب الجوز كثيراً نظراً لفوائده المتعددة، وكوني أتناول يومياً ثلاث جوزات، عند الفطور والغداء والعشاء.. سأكلفك بتكسير هذه الجوزات في الأوقات التي ذكرت.. ممم، قل لي ما رأيك؟
- هئ هئ هئ.. الله عليك يا أستاذ! لا شك أنك تمزح.. هل يعقل أن أتجشم عناء القدوم إليك ثلاث مرات يومياً، فقط من أجل تكسير الجوزات؟!
- مممم، طيب سأختصر قدومك إلينا.. ما رأيك أن تفتح لي باب سيارتي لدى ركوبي فيها وترجلي منها.. ولن أثقل عليك، فقط في الصباح عند الثامنة تكون أمام الفيلاّ. وكذلك الأمر عند الثانية ظهراًُ. ولن نختلف على الراتب الذي ستتقاضاه..
تمعّنت بوجهه جيداً، يا إلهي إنه يتحدث بمنتهى الجدّية ولا يبتسم!! فكرت كيف لي أن أردّ  له إهانته؟
حدّجته بنظرة لاهبة وأنا أتذكر فشله الذريع خلال المرحلة الابتدائية، وأنه لم يستطع الحصول على شهادة الكفاءة رغم تقدمه لها لأكثر من خمس مرات، فأجبته كمن يزفر ناراً:

-    يبدو أنك نسيت أن شهادتي العلمية تفوق شهادتك بأضعاف يا محترم؟
وسرعان ما فهم رسالتي، وربما أحسّ أنه جرحني. فأراد تهدئة اللعب مجيباً على الحارك:

-   لا لا طبعاً لم أنسَ... طيب ما رأيك أن تعمل بالمختبر العلمي الذي أنوي إشادته في هذه المدينة. لديّ مجموعة من الاختبارات أفكّر بالتأكد من صحتها؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، ذنب كلبي المدلل ما غيره الذي قطعته، فقد وضعته في ثلاجة البراد بعد أن مددته بشكل مستقيم فيها، لأتأكد من صحة ما يشاع أنه لو بقي في البرّاد أربعين عاماً ثم أخرجناه، لعاد إلى طبيعته وانحنى..
- (أجبته وأنا في غاية الاستغراب) وما هو عملي في هذا المختبر؟!!!....
- عملياً لا شيء! أعني مهمتك تنحصر في مراقبة البراد والتأكد من ديمومة تغذيته بالتيار الكهربائي وعدم فتح البراد من قبل أيّ شخص كان..
- (قلت في نفسي سأتحمّل وقاحته ليدلق كل ما بجوفه من قذارات) أرجو المعذرة! لا طاقة لي في تحمّل هذا النوع من الأعمال..!
- ممم، طيب أوظفك عندي بمهمة سنوية وهي مراقبة الهلال في بداية شهر رمضان المبارك..! وهذه مهمة سهلة عليك ولا تقتضي منك أيّ جهد أو خبرة أو معرفة بعلوم الفلك.. إذ يكفي أن تجلس على السطح وأنت تشرب المتة.. ناظراً إلى السماء تراقب إبداع الخالق في الكواكب والنجوم و..
- (أحسست بأنني أحتاج إلى قدرات أسطورية للتحمّل) اعذرني! فهذه المهمة يمكن أن يقوم بها أي إنسان غيري.. أريد عملاً آخر.
- طيب، ما رأيك أن تعمل على النتّافة؟
- نتافة؟ وما هي النتافة هذه؟!!
- لقد أحضرت معي من أوروبا نتافة عصرية جداً، وهي عبارة عن مكنة كهربائية تقوم بنزع الشعر غير المرغوب فيه من الجسم دون ألم.. واستخدامها سهل جداً وبسيط للغاية..
- ومن سيكون زبائني في النتف؟!!
- آه.. أنا مثلاً.. بعض أصدقائي ومعارفي.. يعني ومن قريبه!
- هل يقتصر عملي على التعامل مع الذكور؟
- يا خبيث! فهمت عليك.. يا سيدي ومع النساء أيضاً لا تزعل، ولكن هذا يتم في مرحلة قادمة بعد أن تنتشر هذه الطريقة ويقتنع الناس بها. عندها يمكن أن أفتح مركزاً متخصصاً للعناية بالبشرة وبكافة ملحقاتها..
-  (المعجزة وحدها تستطيع كظم الغيظ الذي يمزقني) كل هذه الأعمال لا تليق بي، فأنا صحيح معتلّ الجسم، لكنني أحمل شهادة جامعية ومتابع للأحداث الثقافية والسياسية في البلاد و..
- فهمت عليك خلاص، طيب ما رأيك أن تكون مستشاري الشخصي لشؤون الثقافة والسياسة؟ ما عليك إلا أن تقدّم لي تقريراً كل مساء يتضمن أهم الأحداث التي تمر بها البلاد على الصعيدين الثقافي والسياسي.. يا أخي ضروري الواحد يعرف ماذا يحصل في بلده.. وكما قلت لك لن نختلف على الراتب أبداً.
- أأ...
- هوْهوووت علينا أبو وليد! هل تريدني أن أزعل منك؟ خلاص، اعتباراً من الغد نلتقي الساعة التاسعة ليلاً بعد حمّام الساونا وتقدّم لي ما طلبته منك.. مفهوم؟
- (نهضت واقفاً وقد أينعت عناقيد الغضب في كافة أغصان جسمي) شوف يا مغترب يا أصيل! منذ سنوات وأنا أحلم بعمل وبدون أجر، وإذا ما ساعدتني على تنفيذه سأكون ممتناً لك طوال عمري..
- وما هو؟
- تقدّم مشروعاً إلى المجلس الأعلى للاستثمار، خلاصته تكليفي برئاسة شركة مساهمة مغفلة مهمتها مراقبة عمل المسؤولين في الدولة وشركائهم من رجال الأعمال ومعاقبة الفاسدين منهم. وذلك بشدّ آذانهم وفركها بالجوز لدرجة الاحمرار. ويفضّل على شاشات التلفزيون مباشرة. ثم نعلّق على قفا كل منهم، ذنب كلبك المستقيم الذي سينحني لا محالة بعد إخراجه من البراد، ونسوقهم ونطوف بهم في شوارع المدينة. ثم نقوم بنتف شعرهم المرغوب به. ونغلق أبواب سياراتهم بقوة على أياديهم الآثمة، عند مطلع الشمس وعند مغيبها. ولحظة ظهور الهلال واختفائه. ليكونوا عبرة لك وللآخرين.. يلعنك عكروت ابن عكروت!

  ونهضت مغادراً.
بعد عدة خطوات سمعته يقول:
 -    أيـــه.. رحم الله قائل المثل (لا تعمل خيراً، شرّاً لا تلقى).  

معلومات إضافية

العدد رقم:
282