ثقافة السلطة... سلطة الثقافة
ما تزال الكثير من المفاهيم الأساسية مثل «المثقف»، «السلطة»، «الخطاب»، «الفكر النقدي» غامضة في استعمالنا المصطلحي والمفهومي، ربما لأن اللغة العربية، لأسباب عدة، لم تتسع بعد لاستيعاب وهضم مثل هذه المفاهيم التي نشأت ونمت ضمن لغات عريقة في حداثتها، ومن هنا فقد جاءت معظم هذه الكلمات-المفاهيم من اشتقاقات لغوية مرتجلة نوعاً ما، وبالاعتماد على اجتهادات شخصية غير متفق عليها على الصعيد العام.
لن نحاول هنا تقديم عرض توضيحي لهذه المفاهيم، بقدر ما سنحاول إيرادها ضمن بنية تصورية معينة تحاول ملامسة واقعنا الراهن، وما يجري فيه من تطورات وأحداث دالَّة، فمفهوم «السلطة» الذي يقتصر استعماله عادةً في الحديث عن السلطة السياسية، قد اتسعت دلالته، بفضل إسهامات العلوم الإنسانية والفلسفات المعاصرة، ليصبح مفهوماً شديد التعقيد، وليتغلغل في أعماق الوجود الاجتماعي، وما يهمنا منه هنا، أنه يشير إلى ممارسات اجتماعية تاريخية، تشمل مختلف التقنيات والضغوط والاستراتيجيات التي تمارسها على الأفراد القوى الاجتماعية المختلفة والمتصارعة، لتطويعهم جسدياً ونفسياً وفق متطلباتها. هذه التقنيات والضغوط ليست مرتبطة بالضرورة بمؤسسات وهيئات معينة، وهي التي تنتج التصورات الأساسية السائدة عن «الحقيقة» و«المعرفة».
أما عن مفهوم «المثقف» فلم يعد بالإمكان تعريفه بالاستقلال التام عن مفهوم السلطة، فالمثقف الحديث الحقيقي هو فاعل اجتماعي، يحترف ممارسة النشاط الفكري، وهو مرتبط حكماً بفئة أو طبقة اجتماعية معينة، يساهم في إنتاج خطابها المعرفي والاجتماعي، مما يجعله مثقفاً «عضوياً» حسب تعبير غرامشي، ومحوراً أساسياً في العلاقة الجدلية بين السلطة والمعرفة. ويمكننا أن نستثني من هذا فئة قليلة من المثقفين اللامنتمين الذين يعيشون على هامش الوجود الاجتماعي، والذين لعبوا مع ذلك دوراً كبيراً في تشكيل الوعي الإنساني عبر التاريخ.
وفي البلدان التي تسود فيها الديكتاتورية السياسية، تحاول السلطة (بمعناها الضيق) صياغة خطاب ثقافي أحادي جامد، يتوافق مع مصالح القوى الاجتماعية السائدة في معادلة السلطة (بمعناها الواسع)، وهذا الخطاب الثقافي يتميز عموماً بضحالته وابتذاله، ويخلق «قيماً» و«حقائق» و«أنطمة ترميز»، تصبح هي السائدة، وتطمس بعنف أخرق كل ماعداها من قيم. هنا يجد المثقفون أنفسهم أمام خيارات صعبة: فإما أن يلتحقوا بالخطاب السلطوي السائد، معرضين فعاليتهم الثقافية للضمور والاضمحلال، لأن الخطاب الأحادي الجامد غير قابل للتوسيع، ويضيق فيه هامش المناورة إلى أقصى حد، فليس أمام المثقف سوى إعادة إنتاجه بشكل ميكانيكي... وإما أن يلجؤوا إلى الانزواء في الهوامش، ليعيشوا حياةً فكرية هي أقرب إلى حياة المتصوفين منها إلى حياة المثقفين بالمعنى الحديث (وهذا ما نصح به ابن باجه أقرانه من الفلاسفة في ما مضى).
يبقى أكثر الخيارات صعوبةً على المثقف، وهو خيار الثقافة النقدية والمضادة، حيث يتوجب عليه أن يحاول صياغة خطاب ثقافي بديل، يواجه الأساسيات والثوابت والبديهيات التي خلقها الخطاب الثقافي السائد، ولا يخشى اختراق محرماته، والنطق بما سكت عنه... هنا يخاطر المثقف بالكثير، ويجد نفسه في مواجهة سلطة لا ترحم، بل في مواجهة عصر بأكمله!!
يندر بين المثقفين في عالمنا العربي اتخاذ موقف الثقافة النقدية، حيث لا يمكننا أن نلحظ البوادر الخجولة للثقافة النقدية العربية إلا في المنافي، أو في الفسحات الضيقة للتفكير والكتابة التي يتغافل عنها الخطاب السائد. وبما أن المنافي بعيدة والفسحات شديدة الضيق، فهناك فرصة أخرى ضئيلة نوعاً ما للمحاولة، وهي أن يعود المثقف إلى الهامش الصغير للمناورة الموجود ضمن الخطاب السائد، ويحاول العمل داخل مؤسساته، ووسائل إعلامه الجماهيرية، فيقوم بزعزعته من الداخل، وباستخدام لغته ومفاهيمه وأدواته المعرفية ذاتها، مستغلاً كل قدراته على المناورة والتحايل والتلاعب بالألفاظ.
إنها محاولة صعبة حقاً، ومصيرها في أغلب الأحيان مثير للرثاء، وهكذا فعلينا أن نعوِّد أنفسنا مرغمين على مشاهدتها وهي تجهض بفظاظة، بعد أن نكون قد علقنا عليها الكثير من الآمال...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 385