بين قوسين كان ينبغي أن يُقْتَل
ربما كان مهدي عامل أوّلَ من طرح السؤال عن مشروعية استخدام الماركسية في تحليل بنية مجتمعاتنا، ليجد الجواب في أنَّ الرأسمالية قد طاولت العالم برمّته، بما فيه بلداننا، وأنَّ لا وزن كبيراً للقول إنَّ الماركسية فكرٌ إنسانيٌّ مِلْكُ البشرية جمعاء ويصحّ في كلِّ مكان.
ولعلَّ عامل من أوائل الذين رأوا أنَّ الرأسمالية التي طاولت العالم كلّه لم تطاوله على النحو الواحد المتجانس ذاته؛ وأنَّ قوانينها العامة أو الكونية لا توجد إلا متميّزةً، تبعاً لبنية كلّ منطقة وتاريخها؛ وأنَّ على الماركسية في كلّ منطقة أن تكون علم هذا التميّز ضمن الكونية وإلا فلن تكون أكثر من محفوظات عامة لا قيمة لها.
هكذا، رأى عامل أنَّ الماركسية محكومة بألاّ تكفّ عن إثبات نجاعتها في فهم مشكلات بلداننا وتحليلها، وأقام فارقاً حاسماً بين ماركسيةٍ «مُكَوَّنَةٍ» وأخرى «تتكوَّن» كلما تصدّت لمشكلةٍ وأفلحت في الإمساك بتلابيبها. وبمثل هذه الماركسية الأخيرة أَمْكَنَهُ أن يقدّم كشوفه الفذّة الكثيرة، وأهمها مفهومه عن «نمط الإنتاج الكولونيالي»، شكلُ وجود نمط الإنتاج الرأسمالي في منطقتنا، ومفهومه عن «الطائفية» و«الدولة الطائفية»، حيث لم يقلّ ما اجترحه هنا عن تغيير تعريف «الطائفة» ذاتها وكامل تصورنا عنها، فلم تَعُدْ جماعةً بشريةً بل علاقة سياسية تربط الطبقات الكادحة بالبرجوازية الكولونيالية ذلك الربط الذي يَحُولُ دون استقلالها كطبقات.
وما من فكرٍ، عند عامل، إلا وينطلق من موقع، ولذلك فإنَّ على النقد المنتج للمعرفة – والنقد هو السبيل لإنتاج المعرفة- أن ينطلق من الموقع النقيض لما هو سائد وبالٍ. من هنا ذلك النقد الدؤوب الذي سلّطه عامل على عمايات الفكر الماركسي السائد، وعلى الفكر القومي، والليبرالي، والبنيوي، والطائفي، واليومي، وفكر رفاقه هو نفسه، فضلاً عن فكر أدونيس، وإدوارد سعيد، وميشيل فوكو، وابن خلدون، وسواهم.
ومن الواضح أنَّ نقد عامل الفكرَ الماركسي السائد لم يَسُقْهُ إلى مزالق الفكر القومي أو الليبرالي أو الديني، أو الطائفي، كما ساق سواه من نقّاد الماركسية السائدة «الماركسيين». وبقي في فكره كلّه ابن هبّة الحزب الشيوعي اللبناني باتجاه مزيد من الماركسية وليس العكس. بل إنَّ نقد عامل فكرة «الخصوصية» بلغت حدَّ كراهيته استخدام هذه اللفظة، مفضّلاً عليها مصطلح «التميّز»، في حسمٍ قاطعٍ بشأن وجودنا في العالم الواحد ذاته مع غيرنا من البشر: في ظلّ القوانين ذاتها، وفي مواجهة التحديات ذاتها، في النهاية.
في 18 أيار 1987، خرجتُ من البيت في أطراف اللاذقية إلى وسط المدينة سيراً على الأقدام لأشتري مجلة «الطريق»، ولم يكن في جيبي ما يتعدّى ثمن ذلك العدد. وفي حديقةٍ عامة على درب العودة جلستُ وقرأت ما كتبه مهدي عامل عن «الثقافة والثورة»، ولم أَكَدْ أُنْهي تلك القراءة حتى اعترت أوصالي قشعريرةٌ أَخْبَرَتْني –أنا الذي لا أؤمن بالتخاطر وما شاكله- أنَّ «مثل هذا الفكر ينبغي أن يُقْتَل»... أنَّ «هذا الرجل قد قُتِل». ولم تمض ساعة حتى علمت أنَّ عامل قد اغتيل في شارعٍ في بيروت.
كان ينبغي لهذا الفكر/ الرجل أن يُقْتَل، وإلا كيف كان لنا أن نمتّع أبصارنا بما نراه اليوم من «فكر» و«أدب» و«ثقافة» و«حوار»، وبمن نراهم اليوم من «كَتَبَةٍ» و«مثقفين».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 405