الفيديو كليب الرقص على إيقاع الهزائم

تعيش الأغنية العربية منذ أعوام عديدة أزمة كبيرة تطال جميع أركانها، ابتداء من القصيدة الغنائية التي لم يبق منها سوى اسمها، بعد أن فقدت جميع مقوماتها الفنية، وانحدر فيها مستوى الكلمة إلى الحضيض، مروراً باللحن الذي أخذ يفتقر للنغم العذب وللجمل الموسيقية المتناسقة والعميقة، وصولاً إلى انعدام الأصوات الحساسة والمثقفة فنياً، القادرة على التواصل مع مشاعر الناس والارتقاء بأذواقهم الجمالية.

وقد ترافق تراجع الأغنية وانحطاطها مع انتشار محطات التلفزة الفضائية والإذاعات الرخيصة،والتي شجعت بشكل أو بآخر من هب ودب، مبدعين وغير مبدعين، على الإنتاج الفني، باعتبار أن الأسواق الفنية تتسع وتستوعب كل «الإبداعات»، وبحجة أن الأذواق مختلفة ومتنوعة، مكرسة بذلك السطحية والابتذال ومفاهيم الاستهلاك. وزاد الطين بلة في تدهور الأغنية العربية بروز «الفيديو كليب» كظاهرة مرافقة لها، ومن ثم اعتمادها شرطاً ملازماً وضرورياً «لنجاحها»، وقد مثل هذا الفيديو كليب في البداية الخلفية والإطار، قبل أن يستطيع فرسانه وفارساته أن يحولوه إلى جوهر أساسي، وأن يجعلوا من الأغنية شأناً ثانوياً، أو في أحسن الأحوال، حولوا الأغنية إلى مجرد شكل هامشي خال من أي محتوى، بينما أصبح المضمون الحقيقي يكمن في الفيديو كليب، بكل ما يحتويه من إبهار بصري، سواء في الإخراج وحركة الكاميرا،أو في الديكور والملابس، أو في الرقص والسيناريو واختيار الوجوه والأجساد.

وبذلك أخذت الأنغام تختفي شيئاً فشيئاً، وتاهت الإيقاعات الشرقية في زحمة الإيقاعات المستوردة الباعثة للصخب والضجيج، واختفى الفنانون الحقيقيون، ولم يعد أحد يسمع عنهم شيئاً، فيما تسيّد الساحة مغنون جدد، لايمتلكون أية ذائقة، ولايتمتعون بأية موهبة أو ثقافة، اللهم قدرتهم على إظهار ذكورتهم أو أنوثتهم، ليتحولوا بعد ذلك إلى راقصين فاشلين، تحيط بهم ملكات الجمال وعارضات الأزياء، وراقصات وأرتيستات من شتى الجنسيات والعروق.

ومما يلفت الانتباه ويثير الشك والارتياب أن معظم «الكليبات» تنأى كلياً عن الواقع، وتقلد بشكل أعمى أردأ أنواع «الكليبات» السائدة في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، وتغرق مع سبق الإصرار في عالم افتراضي مليء بالغرائز والانحرافات والشهوات، محاولة بذلك فرض أخلاقيات جديدة بعيدة كل البعد عن القيم الإنسانية السامية وعن معاني الالتزام والرقي، بما يحمله من مشاعر نبيلة وأحاسيس عميقة وشفافة.

كما أن الغالبية الساحقة من هذه الكليبات لاتؤدي أية وظيفة عضوية، فغالباً ماتكون الأغنية في واد، والصورة في واد آخر وكأن الهدف النهائي هو إحباط المتلقي، وهو الفقير المعدم والمكبوت أصلاً، من خلال إظهار بطل «الكليب»، يعيش في أفخم الفيلات يركب السيارات الفارهة، يرتدي مع أصحابه و«صاحباته» أفخر أنواع الثياب، يراقص الجميلات نصف العاريات، ويمارس هوايات نادرة ومكلفة، هذا بالإضافة طبعاً لكونه يستطيع اللكم والرفس ومواجهة الأخطار والتحديات، وبعد ذلك كله يغني ويتأوه مطلقاً عبارات الأسى والحزن والألم، ويتحسر على نفسه المعذبة!!

ولعل أسوأ ما تقدمه الكليبات بشكل يدعو للقلق، هو صورة المرأة فهي على الغالب، خائنة لعوب سطحية وسهلة المنال، والغريب في الأمر أن بعض هذه الكليبات هي من سيناريو وإخراج نساء، فهل هذه مصادفة؟ أم أن المسألة أخطر وأعمق مما تبدو عليه في الظاهر؟ ولماذا لاتقوم الاتحادات النسائية العربية بأية خطوة لمناهضة هذه التوجهات المريبة؟ وإذا كانت صورة المرأة كذلك، فليست صورة الرجل بأفضل، ولاصورة المجتمع، فالكليب يظهر الجميع كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، طلاباً وعمالاً وفلاحين، مندفعين نحو اللهو، أو مبهورين بالترهات والتفاهات، أو ميالين للأنانية والأحقاد والثرثرة، والأهم أن الجميع من دون استثناء، لايحملون أي هم ولاأية قضية!!

وتلعب وسائل الإعلام والصحف الفنية دوراً بارزاً في صنع «النجوم» وتقديمهم على أنهم الأكمل والأمثل والأفضل، فذاك «فارس الأغنية العربية» والآخر «سلطان الطرب» والثالث «نجم النجوم» وتلك «مطربة البراءة» والأخرى «سوبر ستار العرب» وهكذا دواليك....، ولكن مايبعث على الحزن والاستياء أنه من بين المئات وربما الآلاف (لاأحد يعرف عددهم لكثرتهم) من هذه الوجوه والأصوات، التي «تتلألأ» في الشاشات، و«تشدو» في الإذاعات، وتتصدر الصفحات الأولى في المجلات، لا يوجد سوى قلة قليلة، تكاد لاتلحظ من الفنانين الحقيقيين الذين يقدمون أغنية راقية و«كليباً» محترماً، والغالب أن معظم المخضرمين من مطربي الكلمة واللحن والصوت الجميل والذين لم يعتزلوا بعد، ظلوا بعيدين عن إغراءات الفيديو كليب حفاظاً على رصيدهم الفني من الضياع،وإن كان بعضهم قد وقع في هذا الفخ وقعة شديدة، ولامجال هنا لذكر الأسماء.

بقي أن نقول: إننا لسنا ضد «الكليب» كشكل فني استطاع فرض وجوده في الأغنية، ولكننا ضد الابتذال فيه، وضد إسهامه في جر الأغنية العربية إلى مزيد من التدهور والانحطاط شكلاً ومضموناً وضد تسويقه لأفكار العولمة وللثقافة الأمريكية الساعية لسحق ثقافات الشعوب، ونرى أنه من حقنا، وبل من الواجب علينا محاربة مشوهي الفن الراقي المعبر عن أحاسيس الناس وآلامهم وآمالهم، ولن نقبل أن يستمر الرقص على إيقاع الهزائم، ففي هذا الوقت الذي تعزف فيه الإمبريالية الأمريكية والصهيونية الموسيقى الوحشية من خلال الطائرات والقذائف والقنابل، وتقتل أخوتنا في العراق وفلسطين، يجب ألا نسمع سوى الأنغام التي تحيي فينا الآمال، وتعمق إيماننا بإنفسنا وإنسانيتنا وقيمنا الراقية وأحاسيسنا الشفيفة، فينعكس ذلك فينا مقاومة وصموداً وتوقاً للحياة والحرية.

 

٭ جهاد محمد

معلومات إضافية

العدد رقم:
225
آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 21:33