Parkizol
أيمن الدبوسي أيمن الدبوسي

Parkizol

ورّقت الطبيبة المُقيمة، بعجالة، الملف الطبي للمريض الذي دخل المكتب وجلس قبالتها، من دون أن ترفع بصرها نحوه. كانت مرهقة إثر يوم شاق، أتت فيه على طابور طويل من المرضى الذين اصطفّوا أمام مكتبها لتجديد وصفاتهم الطّبية. أحسّت خوفاً راح يتعاظم وهي تطالع بيانات المريض، ذي السوابق العدلية المتكررة، ملقية نظرات مختلسَة على ذراعه المبسوطة على المكتب بشكل فجّ، عاجزة عن عدّ الندوب التي مزّقت لحم يده اليسرى من المعصم حتى أعلى الذراع.

«شلطات» من شفرات حادّة مزّقت حتى الوشم الأخضر على الذراع السمراء، مشوّهة ملامحه إلى الأبد. اليد اليمنى لم تسلم كذلك من الندوب، والوجه الكالح أيضاً. هذا إلى جانب أنّ للرجل رائحة عرق نفاذة زادت من تقزز الطبيبة وهي ترفع بصرها نحو وجهه، أخيراً - بعد أن مسحت بسرعة سيرة ثلاث سنوات من المتابعة في الرّازي - ليزداد ذعرها، وهي ترى السّحنة المنذورة للشقاء. كان شهرها الأوّل في القسم، والمريض مريضها الأخير، وقد تعمّد التأخر في الصّف، حتى يفرغ الرواق، ويختلي بها. قبل أن يدخل، كانت تستعد لتجديد الوصفة في عجالة، ثم تمضي للفطور مع خطيبها.

ردّ على أسئلتها باقتضاب. قال إنه لا ينام جيّدا. كثير التوجس والحذر. سريع التشنج. يرى خيالات سوداء في الليل. وذهنه شديد الانشغال، لا يكاد يتوقف لحظة عن الاشتغال. لم تتجاوز المقابلة الدقائق الخمس، راحت الطبيبة على إثرها تخطّ الوصفة الطبيّة. كان الارتباك بادياً عليها وهي تُفلت الختْم من يدها ليسقط على الجهة الأخرى من المكتب. 

التقط الرّجل الختْم ببطء، ثم وضعه أمامها بيده الشوهاء، من دون أن يرفعها لثوان قليلة مرّت كالدّهر، قبل أن يسحب يده بالبطء نفسه. شكرته بتلعثم، ثم ذيّلت الوصفة بتوقيعها ووضعت عليها الختم، وناولته إيّاها وراحت تضع أغراضها في حقيبتها بعجالة.ما هذا؟ قال الرّجل في احتقار، وهو يلقي الوصفة بخشونة على المكتب. هذا ليس دوائي، أين الباركيزول؟ أضاف بصوت أجش عليه ندوب.

الباركيزول ليس دواءك. هذا هو الدواء الذي يلائمك، قالت في حزم لم يخف ارتباكها.هل تعرفين أفضل مني الدواء الذي يلائمني؟ قال في حدّة. «هالدول» و«باركيزول». هيّا، خلّصينا، هذه ليست المرّة الأولى.عادت الطبيبة تتصفح الملف، وهي تتذكر تعليمات رئيس القسم المشددة حول عدم التساهل في إعطاء حبوب الباركيزول المثيرة.يقوم الباركيزول لدى بعض المرضى مقام عُشبة الكوكا المقدسة لدى شعب المايا. حبّة بيضاء بحجم العدس أو أقل، ذات مفعول حيوي عظيم. 

الباركيزول، هِبة مرض باركينسون قبل أن ينزل للسوق السوداء ويصير ترياقاً لكل آلام الحياة. الباركيزول من مُحييات الحياة، لهذا صار تجارة كإخوته: الأرطان، الترونكسان، الايكوانيل، المورفين، الفاليوم، والأكينيتون، وصيف الباركيزول، من دون أن يضاهيه في المفعول والقدرات. الحبّة بخمسة دنانير. يأخذ المريض وصفة عليها الهالدول والباركيزول، يلقي بالهالدول ما إن يخرج من الصيدلية، ويحتفظ بالباركيزول العظيم. الهالدول، مضاد من مضادات الذهان الكلاسيكية، دواء يُفقد العنفوان، يسبّب تصلباً في الأطراف، اعوجاجاً في الظهر، يجعل بصاق المريض يسيل من فمه من دون أن يملك القدرة على إيقافه، يُفقد الرغبة الجنسية، يقتل الانتصاب، ويجعل الشخص مُعْرِضاً عن كل شيء... نقمة من نِقم الكيمياء على الذهان، ولهذا يعطونه مرفوقاً بالباركيزول، تكفيراً عن ذنب صيدلي لا يُغتفر.

لا تعلم الطبيبة - حديثة العهد بالرازي - أن المريض الجالس أمامها يحتاج إلى الباركيزول حاجتها هي للماء والغذاء. عْلي بن عزيزة ما كان ليحتاج الباركيزول لو كان أقل سناً بعشر سنوات من الآن. في ايطاليا التي هاجر إليها خلسة مرّتين، قبل أن يعود منها مطروداً، جرّب الكوكايين، والهيروين، والماريخوانا، والكْراك، وغيرها من المخدرات. كان يعفّ عن الباركيزول أيّام الفتوّة، لكنه اضطر إليه اضطراراً حين دخل السجن لخمس سنوات متواصلة. 

هناك، حيث يوزعون الباركيزول والأرطان على المساجين، استهلك أوّل حبّة باركيزول، لأن حيطان السجن لم تكن تكفي وحدها لإخماد الطاقات الشابة المهدورة، كان يمكن أن تنهار الحيطان، لولا تواطؤ الحبس والكيمياء على احتواء اندفاعات الأجساد التي سقطت من حسابات وبرامج من يصنعون مصائر الناس.عْلي بن عزيزة كان فتوّة من الفتوّات.. ذهبت الفتوّة، والهيبة، والعنفوان، والرجل يدخل سنّ الأربعين، التي قضّى منها ثلاث عشرة سنة في الحبس، ليستفيق أخيراً ويجد نفسه بلا عمل، وبلا أي شيء. وإلى ذلك، ففي عهدته زوجة وأبناء، ورّطه فيهما رضى الوالدين حين عاد من ايطاليا بعد «ربطيّته» الأخيرة. رجع في سنّ الثلاثين، قضّى على إثرها ثلاث سنوات طليقاً، تزوج خلالها وأنجب ابنتين، مريم وهيفاء، قبل أن يعود للسجن بعقوبة خمس سنوات، ويخرج منه بجسم نحيل مُتهالك، وبصر ضعيف، واكتآب، ومرض السكري، وهو بعد في الثامنة والثلاثين. عْلي بن عزيزة عرف أنه انتهى حين نُكّل به في معركة مع «خليقة» آخر ما يزال في أوج العنفوان.

ما قتله ليس كونه تلقى ضرباً مبرحاً، وإنما الإهانة التي لحقته بعد أن أشاع غريمه أنه صار لوطيّاً في السّجن، تهمة هو براء منها كما يقول، لكنها وجدت رواجاً في الحيّ الذي يقطنه. نقمة الأشقياء في ما بينهم، لا يرحمون بعضهم بعضاً. كان يمكن لعلي أن يَطعن غريمه ويعود للسجن، ويغسل شرفه من كل الإهانات التي لحقته. ليس الخوف ما منعه، وإنما مسؤوليّته أمام ابنتيه اللتين كان يحبّهما حبّاً مجنوناً، ويخشى عليهما من مصير مجهول في غيابه، كما أنه لم يعد يثق في قدرته على احتمال ظروف السّجن القاسية. «خليقة مكسّر»، هذا ما انتهى إليه علي بن عزيزة وهو يلج سنّ الأربعين. 

ولكن، الباركيزول...كان الباركيزول بالنسبة له ذلك اليوم مسألة حياة أو موت. إمّا الباركيزول وإمّا الجوع. إمّا الباركيزول وإمّا كل هموم الدنيا على رأسه. لم يبق له من البراعات في عُرف الفتوّات غير الحيلة والدهاء. سرعة البديهة مقابل سرعة اليد في تسديد اللكمات.

كان عليه أن يتحاشى الدخول في مواجهات مباشرة، واحتمال الإهانات أحياناً، واستعمال الحيلة لكسب المال. استعاد بعضاً من وزنه، وصار يرتدي ثياباً خشنة، لكنه لم يسترجع خفّته أبداً. كان يعوّل على مظهره وماضيه في فرض نفسه. إيهام بالقوة، وهيبة استعاد بعضها بعد أن كان يفرضها بقوة اللّكمات.

كلّ ما يحتاج إليه هو تلك الوصفة التي يجب أن يحصل عليها بأي ثمن. ستون حبّة باركيزول، كفاية شهر. لم تكن الطبيبة تعلم أن علي يستهلك حبّة، ويبيع أخرى يشتري بثمنها علبة تبغ وقهوة، وما يتبقى فهو لصحن «الكفتاجي»، فطوره. حبّة الباركيزول التي يتناولها مع القهوة صباحاً تعيد له الثقة بنفسه، وتقلّص خوفه من غريم مجهول قد ينقض عليه في أيّة لحظة. 

الباركيزول يعيد إليه توقد الذهن، والقدرة على الاحتيال والمراوغة، صفتان يحتاجهما كل من قرّر كسب رزقه من سوق «زَرْقون» السّوداء.الطبيبة لا تعلم كذلك أن عْلي يقف كل صباح في مدخل سوق «زرقون»، يرقب الداخل والخارج، يضبط الأمور، يترصّد الفرص، ويتوسّط لبيع المتاع المسروق كالعملات الأجنبية، والباركيزول، والفياغرا المهرّبة، وأقراص الأفلام الإباحية... كان يبيع كل شيء تقريباً... عدا حُقن الإيدز، التي كان يعفّ عن بيعها رغم الإقبال الكبير عليها، وهي أقصى ما وصل إليه خيال الانتقام الذي عرف أوج اكتماله عند «ولد وْرِيدة». وهذا اكتشف بعد عودته من ايطاليا أنه مريض بالإيدز، ليوحي له خيال الانتقام فكرة بيع دمه الملعون، في جرعات تُسحَب طازجة من عروقه: لكل من يرغب في الانتقام من فتاة خانته، أو رفضته، لكل من يرغب في الإجهاز على غريم، حقنة إيدز غادرة من دم «ولد وريدة»، هي موت رخيص مضمون. موت بطيء لا تزيد كلفته عن خمسة وعشرين ديناراً.

يزداد توتر الطبيبة وهي تطالع الملف مرّة أخرى. الرّجل لم يكن يكذب، الملف يشير إلى أن أحد الأطباء كان يصف له الباركيزول، لكن حسّها العيادي يقول إنه لا يحتاجه. كانت في مأزق. إنها تعلم أنّ هذا الصنف من المرضى، «السايكوباث»، يمكن أن يصبحوا عنيفين، ولا شيء يردعهم. لقد قرأت حولهم صفحات علميّة طويلة قاسية - لم تتغيّر، وصَمَتهم بالسوء والسّلب، مذ ضُبطت طباع البشر في جداول عياديّة.

الإدمان على الباركيزول يمكن أن يتسبب في مشاكل صحيّة كبرى، قالت الطبيبة وهي تلجأ إلى الحيلة، في سعي أخير لثني عزم المريض.لم يبق في هذا الجسد شيء سليم يستحق أن أحافظ عليه، خلّصينا يا دكتورة، قال الرجل مشيراً إلى رزمة الوصفات الفارغة في نفاد صبر.

صدّقني، الإدمان على الباركيزول يمكن أن يُسبّب تلف الذاكرة.فليذهب الباركيزول بالذاكرة، صاح الرجل. ليس في هذه الرأس اللعينة ذكريات تستحق الحفظ. هاتي النسيان يا دكتورة، هاته حالا. 

ولكن...قالت الطبيبة، ولكن المريض قاطعها في انفجار: لا تحرمونا من الباركيزول يا ربّكم. أتركوا لنا ما يجعل الحياة مُمكنة، ما يجعل الحياة قابلة للاحتمال. ثم أردف في غضب: لقد أخذتم كل شيء، فاتركوا لنا ربّ الباركيزول.ولكن الباركيزول يمكن أن يسبب لك الأهلاس والأوهام، ويجعلك غائباً عن الواقع. قالت الطبيبة وقد عاودها الرّعب من لهجة المريض العنيفة.

يا ربّ الواقع، أي واقع يُمكن أن يفوتني؟ ليس لأمثالي نصيب في شيء. أنتم أخذتم الوجوه الجميلة، والسيارات الجميلة، والمنازل الجميلة، والوظائف الرائعة، فاتركوا لنا الباركيزول. أتركوا لنا الوهم. قال المريض، وقفز يحول بين الطبيبة وباب المكتب، وقد حاولت التملّص والهروب. تراجعت الطبيبة في رعب ليصطدم ظهرها بالحائط، والمريض يقترب منها بوجه ينضح كراهية.أكرهكم. أنتم الأطباء ورجال الشرطة. لا تضيّعون فرصة لترددوا على مسامعنا أننا مرضى ومجرمون، لا نصلح لشيء.

تدمّروننا بالسجن. تدكّوننا بأدوية تسرق منا حيويّتنا، وتجعلنا كمريض السرطان في أيّامه الأخيرة، يذبل ويموت في صمت.لا تقترب أكثر، صاحت الطبيبة والمريض بات قيد خطوتين منها.هاتي الباركيزول إذاً. هاته حتى أقف في السّوق، حتى أصبح رجلا.

يدنو عْلي من الطبيبة خطوة أخرى، يسحب شفرة حادّة من جيبه في خفة. تصاب الطبيبة بالهلع وهي ترى لمعة الحديد البارد. ترفع يديها لتحمي وجهها وتأخذ في الصراخ. لكن عْلي لم يكن مستعداً للرجوع إلى السّجن ذلك اليوم. لو كان أقلّ سناً من الآن لبصق على الأرض وأكره هذه القحبة على لعق بصاقه وتقبيل حذائه. لولا خوفه على بناته لفتح بشفرته فرْجاً على وجه الطبيبة.

لكنه سيكتفي اليوم بتمزيق ذراعه. بحركة لا يتقنها غير عازفي الكونترباص المَهرة، مزّق لحم ذراعه. ذبح اليسرى باليمنى، في عزف دموي بالشفرة على أوتار العروق. الطبيبة تصرخ، وعلي يضرب بالشفرة على ذراعه، والدّم رقشٌ على البلوزة البيضاء، على وجه الطبيبة، على الحائط، على الأرض. الدّم على الدّم. ينهار علي وتفلت الشفرة من يده. يتهالك على الطبيبة. يتعلق بلباسها. يصيح في توسّل أخير: باركيزول يا دكتورة، باركيزول، بربّك، حتى أقف. باركيزول...

تكاد تنزلق على الأرض وهي تدفع الرجل الذبيح بقدميها واطئة دمه. تركض خارج المكتب وحقيبتها بين يديها. يعترضها الممرضون في وسط الرواق، وقد تفطنوا أخيراً إلى الصراخ والضوضاء. يأخذها بعضهم لتغسل جُرمها وقد نزعت بلوزتها في الأثناء وراحت تمسح بها وجهها الأصفر. 

يزدحم المكتب بالممرضين، وقد لحقتهم مساعِدة رئيس القسم، ليتحوموا جميعهم حول الرجل الغارق في دمائه وهذيانه بالباركيزول. تأمر الطبيبة المُساعِدة برتق جراح الرجل، وهي تعينه على الوقوف، مادّة نحوه ذراعها. ينهض عْلي بصعوبة، ليأخذه الممرضون إلى قاعة الإسعافات.

تطلّب الأمر ساعة لرتق الجراح ووضع الضمادات، أخذه الممرضون على إثرها إلى مكتب الطبيبة المساعِدة، كما أمرت. الطبيبة ذات العينين نصف الناعستين، تعرف السرّ المُضمَر في الحبّة البيضاء. يسقط رماد التبغ من السيجارة التي لا تكاد تفارق فمها المزرورق الشفتين، وهي تخطّ كفاية شهر من الحيلة والحيويّة المجبولة أقراصاً.

يصافح عْلي الطبيبة وهو يقبض على الورقة الثمينة وينهض ليغادر المكتب. يشعل لفافة تبغ وهو يغادر القسم متوجهاً إلى صيدلية المستشفى، حاملا وصفة عليها ستون حبّة من الباركيزول، استحقها عن جدارة. وصفة لا ككل الوصفات، ممهورة بالدّم، ختم الأختام.

 

* كاتب وأخصائي في علم النفس، من تونس

المصدر: السفير العربي