احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين
أن الشِعرَ يقدِّمُ الخطوةَ الأولى في السُّـلَّـمِ الذي يحملُ البشرَ إلى السماءِ. ومن هنا إغراؤهُ. وأقولُ عن نفسي : ليس لي من حياةٍ فِعليّةٍ ، خارج الشِعر.
الشِعرُ خبزي اليومي.
وأريدُ له أن يكونَ خبزَ الناسِ جميعاً.
"سعدي يوسف"
*
بَدَهيّة
سعدي يوسف
لستُ الـمُـقـامرَ
أنت تعرفُني ، طويلاً ، من نخيلِ أبي الخصيبِ
إلى تمارينِ الصباحِ بـ " نقرة السلمانِ " ...
حتى لندنَ ... الآن !
انتبهْتَ ؟
أريدُ أن تُصْغي إليّ الآنَ :
لم أكن المقامرَ
هكذا !
لكنني غامرتُ ... كنتُ ولا أزالُ ، هنا ،
المغامرَ
لا الـمُقامرَ ...
هل فهِمْتَ؟
عليكَ أن تُصْغي إليّ الآنَ !
واحفَظْ ما أقولُ
احفَظْ
نعمْ
عن ظَهرِ قلبٍ ...
قُلْ لأهلي: بين دجلةَ والفراتِ ،
هنالكَ اسمٌ واحدٌ
هو ما ظللتُ لأجْلهِ ، أبداً ، أغامرُ
هو أوّلُ الأسماءِ
آخرُها
وأعظمُهــــا ،
وما يصِلُ الحمادةَ بالسماءِ :
هو العراقُ الأولُ العربيّ
سعدي يوسف
*
سعدي يوسف.. صوت قوي في الضمير العراقي.. بدأ قويّا.. واستمرّ يقوى ويقوى.. دون أن يتسنى له أن يتراجع أو يخفت قليلاً.. وكأنّ ظهوره كان قدرا عراقيا.. له قوّة القدر وحكمة القدر الذي لا يستطيع التراجع، ولا يمكن دفعه للتراجع ولو اجتمعت عليه الأقدار.
ذلك القدر الذي ربط ظهوره، بظهور جيل الحداثة العراقية.. ليس كتوأم.. ولكن ك(يعقوب) .. ولنتصوّر لحظة.. ظاهرة الحداثة العراقية من غير (سعدي يوسف)!!..
لنجمع كلّ حصيلة أولئك الروّاد ومن يدخل تحت تصنيفهم في كفة، ونضع حصيلة سعدي يوسف في كفة مقابلة!.. لا أعتقد أن معادلة الريادة أو الحداثة، كان لها أن يكون هذا الزخم، لولا وجود (توربينات دفع رباعية) حملت تلك الظاهرة، وارتقت بها بقوة وزخم ثقافي وجماهيري، لم يهدأ أو يتوانى منذ انطلاقته، مع بواكير النصف الثاني للقرن العشرين المنصرم، دخولا عارما في القرن التالي، وكأنه يكتسب ويجتذب قوة على قوّة.. فشعريّة سعدي يوسف ليست موجة في بحر الزمن، وانما هي القوّة الموازية والمناظرة له. ان مبدأ شعريّة سعدي منذ انطلاقتها تجترح زمنها الخاص، وتسعى لتجيير الزمن لصالحها، تجيير الزمن العام لزمنها الشعري الخالص. ومن هنا سرّ قوّتها، وديمومتها، وقدرتها على المناجزة والمناكدة واختراق المجهول.
سرّ قوّة شاعرية سعدي، انّها عصيّة على التنميط، عصيّة على القولبة والتشخيص. خلال أكثر من نصف قرن، اجترحت شاعرية سعدي عديد الأنماط والظواهر والقوالب، التي تركت أثرها على الآخرين، وبعضهم تنمّط بها وعجز عن الخروج منها. بينما كانت قاطرة سعدي تتجاوز تلك الأنماط والظواهر، مثل المحطات، وتتجه لاستشراف محطات وطرق جديدة، تقرّب الشعر من الحياة، وتقدّم الحياة للناس، وترفع الناس إلى مستوى التاريخانية.
لم يكتفِ سعدي بالتجديد.. وانما كان منفتحا على كلّ التجارب الأدبية والشعرية، الفنية واللغوية، الفلسفية والظاهراتية، المحلية والتراثية والعالمية. ولعلّه كان من أوائل الذين حوّلوا النص الشعري العربي إلى لوحة فنية، فكرية، نفسية، صورية صائتة.
منذ أبي نؤاس حتى بول شاؤول والزهاوي ونازك والسيّاب.. راهن كثيرون على التجديد والخروج على النمط، سواء من باب الموضة أو النزوة أو التقليد. أما التجديد لدى سعدي يوسف فقد كان جزء من فهمه لحيوية القصيدة وتفاعلها مع اللحظة والواقع، جعل عملياته التجديدية جزء من النمو العضوي للشعر.. فلا يمكن فهم أو استيعاب قصيدة سعدي الأخيرة، دون مراجعة مراحل نموها وخصائصها البنيوية والنصية على مدى سنيّها السالفة.
"أن الشِعرَ يقدِّمُ الخطوةَ الأولى في السُّـلَّـمِ، الذي يحملُ البشرَ إلى السماءِ. ومن هنا إغراؤهُ. وأقولُ عن نفسي : ليس لي من حياةٍ فِعليّةٍ ، خارج الشِعر . الشِعرُ خبزي اليومي ."
فَهْمُ سعدي للشعرِ، حالة سابقة لقصيدته. فهو لا - يُشَعْرِنُ- اللحظة والمفردة والخبز، وانما يجدُ الشعر مبثوثا في كلّ شيء، الشعر كحالة سابقة للغة، أي أنها شعرية الوجود، شعرية النسمة، شعرية السعفة، شعرية الصوت. هذه الرؤية الوجودية للشعر، تعطي نصوص سعدي مذاقا ونكهة على درجة من الخصوصية.
ويحسب له، قيامه بشعرنة كثير من الحالات الانسانية والألفاظ الدارجة والأجنبية، إلى جانب مصطلحات "حياة" ما بعد الحداثة، كالنت والفيس بوك والهيدفون وما إليها.
شاعرية سعدي يوسف لها سلطة، مثل سلطة الكهنوت، تجعل الشخص عاجزا عن رؤيتها من الخارج، وعاجزا عن فصل ذاته عنها من الداخل. القصيدة عند سعدي حالة تلبّس، تخرج من ذات الشاعر لتتلبّس المتلقي. ثمة ليس كثير من الشعر الذي تشعر وأنت تقرأه أنك تتكلم عن نفسك أو من ذاتك. وأعتقد أن هذه أحد خصائص الشعر. فالشعر ليس ظاهرة خارجية أو حالة وصفية، أو فذلكة بلاغية، انّه روح وحياة. وسعدي اليوم شاب في الثمانين بفعل الحيوية المتدفقة من نبع الشعر، وتماهيه العجيب في اللحظة الشعريّة.
صوته واسع.. عند استعارة التصنيف الموسيقى.. واسع جدا.. ويكاد لا تتناهى شواطئه في باصرة الراهن.. هذه اللامتناهية الشعرية هي نظير اللامتناهية الزمنية الفيزيائية..
نخلُ السّماااااااااااااااااااااوةِ أمْ نخلُ السّماااااااااااااااووووووووووواااااااااااااااااااااااااااةِ
ان الواقف على شاطئ البحر لا يستطيع رؤية حدودِ البحرِ أو شاطئه الآخر.. ذلك في مجال فيزياء التعبير.. لأنّ الشعر الحقيقي يستخدم الألفاظ كمادة فيزياوية لصناعة اللغة، ولكنه يمتح من أعماق الروح التي ترى وتعرف، ما لا نرى ونعرف في الحالة العيانية. هذه الروح أيضا هي سرّ قوّة سعدي يوسف الانسان، وسرّ قوّة شاعريته.
من مظاهر سعة الصوت استيعابه الشعر العربي المعاصر، بكل اتجاهاته وتياراته وأنماطه وآفاقه، دون أن يتوقف أو يتأخر لدى أيّ منها، أو يتعثّر بها ويتلكّأ. فالشاعر الذي يصفه البعض بالخمسينيّ ، طبع أول خمسينيّة الشعر العربي الحديث ببصماته. وليس من السهل التوقف لدى جيل شعريّ لا تجد فيه نبرات صوت سعدي أو أفكاره أو اعتمالاته الشعرية. فسعدي يوسف من القلة القليلة، على شاكلة الجواهري، يتماهى داخل الحالة الشعرية، ويستغرق في المفردة الشعرية وكأنها العالم كلّه.. كأنها القصيدة!.
وإذا كانت القصيدة – كما يراها أدونيس- طقسا صوفيا، فأنها لدى سعدي حالة صوفية متصلة، طالما اندمجت القصيدة والحياة اليومية في سياق واحد. لكن صوفية سعدي ليست "روحية"، وانما صوفية "ذهنية" كما يجسدها الطاهر بن جلون في (تلك العتمة الباهرة) أو ابن سبعين في (وحدة الوجود)، أو كولن ولسن في (طفيليات العقل). سعدي يتماس مع كلّ شيء في الطبيعة والحياة باعتباره جزء منها وهي جزء منه؛ وهو يعيش في المجتمع ومتغيراته دون أن يخضع لها أو يتركها تقتنصه. فالشعر هنا حالة كونية، حالة استبصار ومعايشة متجاوزة، تستمدّ طاقتها من نقطة بعيدة في روح الكون.
قصيدة سعدي تقتنص طقسها الخاص، وحضورها الفاعل لدى المتلقي. انها تطرق أو تخترق غشاء الحسّ، وتنمو هناك مثل لحن أو أغنية. وقد ظهر أثر قصيدة سعدي بقوة واسعة وعمق، في القصيدة الستينية والثمانينية العراقية، بشكل رسّخ البصمات العراقية للحداثة الشعرية وسهّل اندفاعها خارج الحدود. فعلى خلاف السبعينيين، عاد الثمانينيون لاستعادة الاشتغال على المنجز الستيني العراقي، ولم يخطر لهم أنهم يتشرّبون بصمات سعدي من طرف آخر. لقد حرّر سعدي يوسف الشعر الحديث، من نمطية التقطيع الشعري إلى انسيابية الايقاع والنقلات اللحنية داخل الصوت.. وأتاح للشاعر الحديث حرية أو صلاحيات كثيرة، ما كان لغيره اجتراحها أمام قداسة القصيدة السيّابيّة (النمطية).
رفع سعدي الواقع اليومي محلّ الاسطورة في قصيدة السيّاب، وجعل اللحظة اليومية تتدفق بحيوية الملفوظ الشعري المتدفق.. فظهرت شخصية الشاعر (الذات الفردية) [شخصيات الناس البسطاء]، لتحتل مكانة الرمز التاريخي أو الاسطوري، واتحدت العناصر الثلاثة [الشعر، اللحظة، الذات] لتشكّل هوية القصيدة الجديدة التي اصطلح عليها السبعينيون [القصيدة اليومية] وحاول التسعينيون ترجمتها لتكون اطارا يمنطق الفوضى التي انتهى اليها الرّاهن العراقي.
الظاهرة الثالثة في صوت سعدي يوسف هي عمقه!.
هذا العمق هو الذي يحرّر الصوت من أيّة نمطية أو ظاهرة زمنية لحظوية. انه منفتح باستمرار على التدفق والتجدد وفتح سواقي جديدة. ويجمع على حفاوته وتقدير تجديده معظم النقاد منذ الخمسينيات، لكنه ما كان يمكن، استشراف أو استقراء صور وملامح الجدّة والكثرة المتدفقة لديه..
وعندما نقف اليوم بعد منجز ستة عقود من هذه الظاهرة الشعرية المشرقة، فليس ثمة عرّاف قادر على التكهّن بالجديد اللاحق.. حتى ولا الشاعر نفسه، يجازف بتلك المعرفة؛ لأنّ القصيدة هي بنت ذاتها، وبنت اللحظة التي لم تتجسّد للآن، والعصيّة على التصوّر. لكن جدلية هذه الظاهرة الشعرية لها منطقها الخاص، منطقها الذي يوازي منطق الزمن ولا يخذل نفسه، أو ناسه.
*
عمّان1992
تسعينيات القرن العشرين لم تكن امتدادا عاديا لما سبقها.. انما كانت بداية جديدة في التاريخ العراقي والعربي، ونقلة نوعية في الثقافة العراقية.. ففي أحد الليالي الساخنة جدا من صيف 1990 خرج المارد العراقي عن طوره، واختلّت معادلة التوازن بين العقل والعضلة. وكانت تلك بداية انقضاض النظام العراقي على نفسه.. ولسان حاله يقول..
كلهه بيده.. كلهه بيده
اليريد يعيش.. يزرع ورده بيده
واليريد ايموت.. يحفر قبره بيده – فلاح عسكر
وفي لحظة انتهت حكاية الشبابيك والستائر الملونة، والشمس التي كان يفترض بها أن ترسل خيوطها الذهبية على أحياء الفقراء ودور السكك... - حتى نهاية الحكاية-. بدلا منها تم تدشين موعد جديد لهجرات سومرية جديدة تأمل فرصة قيامة أخرى، خارج (بيت نهرين)..
الغزو العراقي للكويت استتبعه أمران: صدور عقوبات اقتصادية وسياسية ضدّ العراق؛ بدء عمليات حرب الخليج في النصف الثاني من يناير 1991 بقيادة القوات الأميركية ومشاركة أكثر من ثلاثين دولة عربية وأجنبية ضدّ العراق. وقد ترتب على تلك الحرب الأولية أمران : اندلاع انتفاضة عارمة ضدّ النظام في جنوب البلاد وشمالها، استتبعت اعلان مجلس الأمن الدولي (المنطقة الكردية) شمال البلاد منطقة حظر جوي وعسكري (شمال خط عرض 36 درجة)؛ انعقاد اجتماع بيروت (مارس 1991) للشخصيات المعارضة للنظام العراقي في أعقاب فشل الانتفاضة، والذي تبعه مؤتمرا فيننا وأربيل (يونيو، سبتمبر 1992) لتنسيق وتأطير نشاطات المعارضة في إطار المؤتمر الوطني العراقي المدعوم مباشرة من دوائر البيت الأبيض والمخابرات الأميركية والحكومة البريطانية.
في شهر ديسمبر 1992 شهدت العاصمة الأردنية "عمّان" انعقاد المؤتمر الثاني عشر لاتحاد الأدباء العرب.. وبينما شاركت النقابات الأدبية العربية بوفود رسمية تضم بضعة أنفار، جاءت المشاركة العراقية فوق كلّ التصورات.. باص مليان (44 راكبا) من باصات المنشأة العامة لنقل المسافرين، إضافة للوفد الرسمي وآخرين بسياراتهم الرسمية أو الشخصية..
كانت الأردن.. إلى جانب اليمن والسودان وليبيا، البلدان العربية الوحيدة التي تسمح بدخول العراقيين بدون تأشيرة.. لكنها في خريف 1991 عادت لفرض الرسوم أمام طوفان سيل الهجرة العراقية الجديد. وكانت لبنان وسوريا تسمحان بدخول العراقيين لقاء تأشيرة رسمية. وهكذا كانت هناك في مطلع التسعينيات، ست دول عربية فقط تستقبل الوجه العراقي، ثلاثة منها بتأشيرة دخول وشروط [الأردن، لبنان، سوريا]، وثلاثة منها بدون تأشيرة [اليمن، السودان، ليبيا]. ومن هذه الدول كان العراقيون يبدأون رحلة الولادة الجديدة..
كان بعض الأدباء العراقيين وصلوا الأردن قبل المؤتمر، دون علاقة مباشرة به، ومنهم الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي كان مقيما في العاصمة الأردنية من قبل. في أروقة المؤتمر أو المهرجان الذي جرى افتتاحه في مركز مجمع النقابات في الشميساني، كان همس حول حضور الشاعر سعدي يوسف ضمن تشكيلة الوفد الجزائري، البلد الذي أقام فيه سعدي منذ السبعينيات..
في كواليس المؤتمر تدور أسئلة بين بعض الأردنيين عن سبب عدم وجود اسم سعدي يوسف ضمن لائحة الوفد الأدبي لبلده "العراق".. ذلك الوفد الذي كان يضمّ يومها أسماء حميد سعيد وسامي مهدي وغيرهم من رؤساء تحرير الصحف الرئيسية وصدارة المؤسسة الثقافية الرسمية.. ولم يغب عن الأردنيين الطابع الأمني/ الحزبي للوفد العراقي الرسمي أكثر من كونه أدبيا.. البياتي أيضا لم يكن مع الوفد الرسمي، وكان يحضر النشاطات بعد المقدمات والخطب، بصفته الشخصية المستقلة خارج الوفد، وكان يفصل نفسه عنهم في مكان جلوسه أيضا.. كان الموقف السياسي والفكري للشاعر سعدي يوسف واضحا ومميزا، وكذلك خلافه مع المؤسسة الثقافية الرسمية الممثلة للنظام العراقي..
عند انتهاء أعمال المؤتمر، تخلف كثير من جماعة الباص عن العودة لبلدهم.. وكذلك بعض الذين حضروا بأبهتهم الرسمية.. وفي السنة اللاحقة تضاعف وصول الأدباء العراقيين للأردن، ليتفاقم أكثر في أواسط التسعينيات، حيث شكلت عمّان ودمشق وبيروت منافذ لجوء، توزعوا منها في أطراف العالم.
الملاحظة الأثيرة هنا، أن غالبية المشهد الأدبي والمؤسسة الثقافية الرسمية العراقية غادرت مواقعها في الداخل، وانتقلت للضفة المقابلة خارج الحدود. الهجرة الثقافية لم تقتصر على العراقيين، وانما تضمنت الأدباء العرب والفلسطينيين الذين كانوا يعملون ضمن المؤسسة الثقافية الرسمية والحزبية، والذين خرجوا مع أواخر 1990 وبداية 1991، عائدين إلى بلدانهم أو مهاجرهم الأصلية. فتغيير السواري أو تنكيس الأعلام لم يكن عراقيا في التشكيلة، وانما عربيا ومن باطن مؤسسة النظام الرسمية والحزبية.
مغادرة العراق يومذاك لم تكن مجرد سفر أو سياحة أو هجرة أو محاولة للموت خارج الحدود. المغادرة في الحالة العراقية وفي ذلك المفرق الزمني كان موقفا معارضا للنظام. ولربما.. للمرة الأولى، في تاريخ العراق المعاصر، صارت المعارضة الثقافية أو الثقافة والأدب المعارض، فصيلا اعلاميا يضاهي المعارضة السياسية وينافسها. وكان من جرائه ظهور مصطلح "ثقافة معارضة" و "أدب معارض" في الثقافة العراقية. تعريف الأدب المعارض وتحديده وتصنيفه ما زال بكرا على الدراسة المنهجية والتشخيص الأكاديمي رغم مرور ربع قرن عليه. هذا التصنيف لا يشمل كلّ أدباء الخارج ولا يعني كل انتاجهم جملة، وهناك أدب معارض وأدباء معارضون داخل بلدانهم أيضا. كما أنه لا توجد وصفة جاهزة تنطبق معاييرها على النص ليكون معارضا، وانما يختلف الأدباء وتختلف نصوصهم بحسب اجتهاداتهم الابداعية وتجاربهم السياسية. ويختلف النص الثقافي عن النص السياسي عموما، بأن الأول يتوجه لوعي الانسان واستنهاض مداركه ومعنوياته، نحو ادراك أفضل وممارسة أكثر لياقة بالحياة؛ فيما يتجه الأدب السياسي لخدمة عجلة الحكم والمصالح السياسية الشخصية والحزبية، وتسخير الناس لخدمة اتجاهاته وأطماعه.
سبقت مصطلح المعارضة مصطلحات "المنفى" و "الاغتراب" و"المهاجر"، ولكن أيا منها لم يستقر أو يثبت فنيا أو اعلاميا، رغم العدد الهائل للعراقيين المقيمين خارج العراق منذ عقود، وبينهم أدباء وفنانون وأكادميون وعلماء، حكم عليهم بالضياع والتجهيل والنسيان. ووراء تقاليد الإهمال والنكران والنسيان، دوافع ونزعات كثيرة بحاجة إلى دراسات اجتماعية ونفسية. فصلة المرء واعتزازه ببلده ورموزه وشخصياته الثقافية والتاريخية تترجم معنى الوطنية والانتماء.
لا يخطر سؤال ببال الفرد العراقي أو المسئول والسياسي ما هو مصير وحال ملايين العراقيين خارج بلدهم، ولماذا تعاقبهم بلادهم بالتنكر والالغاء؟ لقد كان كثيرون يلومون نظام البعث لاهماله مواطنيه في الخارج!.. أما اليوم.. فأن المجتمع عموما إلى جانب الحكومة لا تهتم بعراقيي الخارج، رغم وجود وزارة شكلية للهجرة.
ما زال أمام العراق الكثير ليستطيع ان يكون وطنا.. وطنا وليس عشيرة أو طائفة أو مقبرة. وما زال هناك قرن أو قرون.. لكي تنبت أزهار الوطنية والمواطنة وحرارة الانتماء والوحدة الاجتماعية الفعلية على الأرض، وليس في التصورات والأوراق.. عندها ستبدأ فصول جديدة للعلاقة بالماضي، فصول جديدة تضاف إلى بكائيات جلجامش وبابل وسنحاريب والحسين والمتنبي حتى المقبرة الملكية ببغداد.. فاكتشاف الأشياء يأتي متأخرا تماما.. وظيفة الماضي هي النواح والتباكي.. أما الحاضر فوظيفته استفراغ التناحرات الفردية وحروب التباغض والتحاسد بكل مستوياتها. هنا.. حيث يتنافس الناس ليس في الطعام والثياب والألقاب فقط، وانما يتنافسون في بناء القبور وطول مسيرات الجنائز وحدّة الصراخ أيضا.
سوف يذهب هذا العراقُ إلى آخر المقبرة
سوف يدفن أبناءه في البطائح، جيلاً فجيلاً
ويمنحُ جلاده المغفرة...
لن يعودَ العراقُ المسمّى
ولن تصدح القبّرة...
(قصيدة رؤيا- من مجموعة حانة القرد المفكر)
*
المصدر: موقع الشاعر سعدي يوسف