درويش والإخوة جبران... ثنائية الشعر والموسيقى
حقيقة لا أعرف من أغنى الآخر في ثنائية الشعر والموسيقى، هل أغنى درويش الغني بلغته الإخوة الثلاثة المبدعين، أم أن ثلاثتهم أغنوا قصيدة درويش؟
نحن هنا أمام حالة مع، وليس في، شعر محمود درويش لا تشبه سابقاتها، فكما نعرف أن الكثيرين قد سبقوا وغنوا قصائد درويش وحولوها لأغنيات جميلة، فهنالك مارسيل خليفة، سميح شقير، أصالة نصري، بشار زرقان، وغيرهم كثيرون، لكن هنا نحن أمام حالة مختلفة، هي حالة ترجمة الشعر لموسيقى، أو ترجمة الموضوعات الأدبية لموسيقى، بالتالي نحن أمام حالة من التجديد والارتقاء ليس بالشعر فقط، بل بفن إلقاءه. فدرويش كما نعرف تميز منذ بداياته، وخاصة بعد عودته من الاتحاد السوفيتي، بفن إلغائه الشعر، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي أدت لانتشار شعره ونزوله للشارع بين العامة، حتى أن البعض كان يجلس ساعات ليستمع لمحمود درويش وهو يلقي الشعر كما لو أنه يستمع لأغنية.
ما أضافه وسام وسمير وعدنان جبران لم يكن لمحمود درويش ولا لشعره، إنما برأيي المتواضع لإلقاء الشعر العربي بشكل عام، إن ما فعلوه هو أنهم أسهموا بإنزال القصيدة أكثر للشارع، وبالوقت نفسه المزج بين جمهوري الشعر والموسيقى في آن، ففي الشعر العربي، الموزون منه تحديداً إيقاع موسيقى لا يدركه سوى المتذوق والدارس للشعر، وكما نعلم أن العديد من المقامات الموسيقية العربية مستوحاة من الإيقاع الموسيقي في بحور الشعر، وأنه في عملية تلحين الأغاني يلجأ الملحن الموسيقي إلى بحور الشعر لتلحين القصيدة –هنا طبعاً لا أقصد ما يسمونها الأغاني الحديثة التي تعتمد على مشهد الفتيات في الفيديو كليب وليس على مضمون الكلمات أو اللحن حتى نحترم أنفسنا قليلاً في تعريف الأغاني والتفريق فيما بينها وبين التهريج الحاصل على الفضائيات اليوم- بالتالي فإن ما جاء به الإخوة جبران هو القريب البعيد، هو إعادة الاعتبار للقصيدة وللموسيقى العربية أيضاً.
إنها إعادة المطلّقة «القصيدة العربية» لطليقها «الموسيقى»، لكن بشكل آخر دون مزاوجة، ودون تفضيل لواحدة على أخرى، بالتالي فهو لم شمل شرعي حقيقي، أي إنه إعادة اكتشاف علاقة القصيدة بالموسيقى.
كما أود أن أركز على نقطة مهمة، هي أن أحد العناصر المشتركة ما بين ما قدمه الإخوة جبران من موسيقى سواء مع درويش أو ما قبله وما بعده، وما بين قصيدة محمود درويش ما قبل الإخوة جبران ومعهم، أن كليهما مجدد في فنه، فدرويش مجدد في قصيدة التفعيلة العربية على مستوى اللغة والمضمون والشكل والبناء، والإخوة جبران مجددون في بناء الموسيقى العربية الشرقية، فكلاهما يقدم فنه بشكل متميز ومبدع، عملية التزاوج التي تمت في أن تكون الموسيقى الشرقية التي تمثل روح الشرق الحقيقي خلفية لإلقاء قصيدة الشعر التي تمثل في شكلها ووزنها ديوان العرب هي عملية تزاوج شرعية حقيقية رائدة، وهو نوع مرة أخرى أقول، التجديد المبتكر في شكل الموسيقى والشعر.
وإن كانت الموسيقى العربية اليوم، والأغاني العربية اليوم مهددة جميعها بسبب ما يسمى «الفيديو كليب» واللحن الرخيص، والابتذال، وتكسير مقامات الموسيقى تحت مسميات التجديد، فإنني أعتبر أن ما فعله الإخوة جبران في مشروعهم، ومثلهم للأسف قلة من الموسيقيين العرب الذين يحترمون أنفسهم مثل، زياد الرحباني، نصير شمّا، شربل روحانا، وغيرهم هو إعادة الاعتبار للموسيقى العربية بالارتقاء بها وإيصالها لمستوى القصيدة الناضجة الراقية المتطورة شكلاً ومضموناً. وأيضاً إنقاذها من لوثة الأغاني الحديثة وتلويث الفيديو كليب، إن كليهما كان يبحث عن الإنسان، سواء درويش في قصيدته أو الإخوة جبران في موسيقاهم، وجميعهم التقوا بإنسانيتهم التي أوصلتهم لن أقول للكمال، بل للتميز والإبداع بتجربة رائدة ستحسب لهم ريادتها.