كمال مراد... وداعاً...

لم أكن لأعرف أنه اللقاء الأخير بيني والرفيق كمال مراد..!

كانت الساعة حوالي الخامسة مساءً، حين غادر مكتب قاسيون كل من كان هناك من الرفاق، وبقينا أنا والرفيق د. نبيل حوج والرفيق كمال مراد، عندما هممت بفتح بريدي الإلكتروني الشخصي، ولأتابع بعض ما كتب عني بأقلام عدد من الكتاب السوريين الذين تضامنوا معي نتيجة القرار التعسفي الذي أصدره ضدي محافظ الحسكة اللواء محمد نمور النمور، والذي يقتضي إبعاد مركز عملي من مدينة القامشلي إلى مكان آخر نتيجة الموقف من كتاباتي الصحفية التي أنشرها ضد رموز الفساد وآلة الخطأ...!

كان الرفيق أبو بحر، وراء جهاز الكمبيوتر، منهمكاً في تحميل مواد العدد الأخير من صحيفة ـ قاسيون ـ ويشاركنا أطراف الحديث الذي نتبادله أنا ود. نبيل، وثمة ابتسامة مدهشة مرتسمة على شفتيه، وبعد قليل، يطلق عنان فرحة مفاجئة:

العدد صار على الهواء...!

ثم تسبقه أصابع يديه، وهو يهتف لعدد من الرفاق الذين يهمهم أمر الجريدة، بدءاً بالرفيق أبي حازم، يوصل إليهم واحداً واحداً رسالته المختصرة معمدة بالغبطة:

العدد صار على الهواء...!

يشعل سيجارة جديدة، ثم يحاول أن يسكب لكل منا فنجاناً من القهوة، كي أعتذر منه، وأقول: أما أنا فسأحتسي الشاي...!

أتذكر أكثر من مرة، نبهته كغيري: رفيق، لو تقلع عن السيجارة والقهوة، لو...!

ولكن هيهات، أن يطيع أحداً منا، لا سيما وأنه أحد هؤلاء الذين لهم علاقة استثنائية بذين الأسطونين اللذين يشكلان عماد حالة الكتابة، وبث الروح في أوصال كل عدد جديد من جريدته التي استسأثرها، وأغمض عينيه بعد إخراج آخر عدد منها!

يسألني: كم بلغ زوار موقعك في الحوار المتمدن؟

أجيبه: حوالي السبعين ألفاً.

أما أنا فقد تجاوز عدد زوار موقعي هذا الرقم، وكذلك بالنسبة لصفحتي: قاسيون وأبي حازم...!

أتحسس خريطة عبطة كبرى، وهو يتحدث عن هذا الإنجاز الإلكتروني الذي يطفح برائحة أصابعه، بكل تأكيد، لاسيما وأنه كان من أوائل الشيوعيين السوريين الذي صلوا في المحراب الإلكتروني كي يحفز سواه، فيحذو حذوه، لاسيما عندما كان يسرد على مسامعنا ـ في البدايات ـ ما كنا نعده أعاجيب العالم الإلكتروني وغدا فيما بعد بدهيات عادية، نتعامل معها على نحو أتوماتيكي.

- أنا مضطر رفيق إبراهيم أن أغادر، لأنني متعب... ولا عليك د. نبيل سوف يوقف تشغيل الجهاز.

ثم ينقر بأصابعه مرة أخرى على المهتف اللاسلكي:

- بابا بحر سآتي إلى البيت ماذا تريد؟

كي أحس بأن أبا بحر من أولاء الآباء الذين يقطرون حناناً وكيف لا يكون كذلك، ما دام أن طفله، وزوجه وحزبه ورفاقه وأصدقاءه هم أعمدة حياة الرجل، ولقد ضحى من أجلهم جميعاً، وثمة من يعرف من المقربين منه مدى تفانيه من أجل كل هؤلاء وعبر ترجمات موغلة في الصدق والوفاء...

- أجل بابا، سأمر على الحميدية وسأشتري لك (...). ماذا تريد أيضاً حبيبي؟

ينظر إلي نظرة، كي أستوي واقفاً، وهو يمد إلي يده مودعاً، ويغدو في ومض البصر خارج الغرفة الصغيرة، بعيداً عن ذبذبات الحواسيب، دون أن أتمكن من رؤيته مرة أخرى...!

حقيقة، إن حياة أبي بحر ـ لتشبه تماماً حياة ـ سانتياغو ـ بطل ـ الشيخ والبحر ـ لأرنست همنغواي ـ لأنه كان أحد الشيوعيين الحقيقيين الذين لم يساوموا يوماً واحداً على مبادئهم، كرمى لمصلحة موقوتة، عابرة، لأنه كان أثناء دراسته مثال الطالب الثوري، وحين ينهي دراسته يبعد هو الآخر عن الوظيفة، كي ينخرط في لجة مهنة المتاعب، صحفياً أبياً، شريفاً، لم يبع قلمه بخساً مقابل دانق، أو مكسب عابر، رغم أنه عاش ضمن حزب جبهوي، اتخذ منه بعضهم سلالم يرتقي خلاله عالياً، ليقتطف بوساطته أطايب الاستثناءات، وكمامات الأفواه، بيد أن روحه الثائرة، أبت إلا أن تظل نظيفة، تخرج عن كل إسار لا تستسيغه، وهذا ـ تماماً ـ ما حدا به أن يكون كاسراً لأصنام كثيرة، وخارجاً عن تابوات شتى، غير مقبول بحسب أعراف المجتمع الصغير، وغير مقبول بحسب تقويم السلطة، بل وطريداً من حزبه، نتيجة دفاعه عن قناعاته الخاصة، دون أن يسمح لنفسه بأي تنازل هنا، أو هناك، مهما كانت ـ الصفعة ـ موجعة، أو السكين واخزة...!

لم أكن لأعرف أنه اللقاء الأخير بيني والرفيق أبي بحر..!؟

 

■ إبراهيم اليوسف