كتاب (عودة كلمة اللام) رؤية ليبرالية للقرن الجديد
يهدف كتاب (عودة كلمة «اللام») رؤية ليبرالية للقرن الجديد، للكاتب دوجلاس مايسي أستاذ علم الاجتماع بجامعة برينستون الأمريكية والصادر في آذار 2005 عن مطابع جامعة برينستون إلى مساعدة اليسار الأمريكي على العودة إلى السلطة من جديد من خلال رسم خارطة طريق تشرح أسباب تراجع اليسار وصعود قوى اليمين في الفترة الأخيرة والخطوات الواجب على اليسار إتباعها في السنوات المقبلة لكي يصعد إلى السلطة من جديد بعد تراجعه مؤخرا كما ظهر في انتخابات أعوام 2000 و2002 و2004 والتي شهدت تزايد سيطرة اليمين الأمريكي على الكونجرس بمجلسيه وعلى البيت الأبيض أيضا.
أزمة اليسار الأمريكي
ويقول مايسي إن عودة الليبرالية تحتم على اليسار الأمريكي فهم أسباب صعود اليمين وقوته في الفترة الأخيرة، كما تحتم على اليسار وضع أيدلوجية ليبرالية جديدة جذابة وبناء تحالفات جماهيرية جديدة مؤمنة بهذه الأيديولوجية وراغبة في التصويت من أجل تمكينها من السلطة.
أما نقطة البداية لدى مايسي فهي أن يعترف الليبراليون الأمريكيون بأزمتهم وبأن تراجعهم يعود أولا وأخيرا إلى أسباب داخلية وأن يبحثوا عن تلك الأسباب داخل أنفسهم.
وهنا يرى مايسي – في الفصل الأول من كتابه - أن التراجع الراهن لليبرالية الأمريكية بدأ في منتصف السبعينات من القرن العشرين وهي فترة شعر فيها اليسار الأمريكي بانتصاره وسيطرته سياسيا فبدأت تنتابه حالة من الغرور والاستعلاء، وبدأ يتحول بعيدا عن الجماهير وعن السياسات التي تمس حياتهم مثل العمل على بناء اقتصاد سياسي عادل يخدم مصالح غالبية الشعب الأمريكي التي لا يهتم بها الحزب الجمهوري الذي يخدم مصالح الأثرياء كما يري مايسي.
في المقابل بدأت حركة ما بعد الحداثة تنتشر في أوساط اليسار الأمريكي وهي حركة فكرية بالأساس نخبوية الطباع يصعب على الإنسان العادي فهمها تركز على الأبعاد الأخلاقية والفكرية للسياسات، ومحور اهتمام حركة ما بعد الحداثة على الصعيد السياسي هو نشر الحقوق المدنية ومكافحة العنصرية والتعصب.
ويرى مايسي أن أجندة يسار ما بعد الحداثة غير مفهومة للإنسان العادي لذا قادت الليبراليين للاستعلاء ولاتهام الأمريكيين بالغباء بعد أن عجزوا عن فهم خطابهم المعقد، كما أنها أشعرت الطبقة العاملة الأمريكية البيضاء بالعزلة عن الحزب الديمقراطي بعد أن انشغل الديمقراطيون عن قضايا العدالة الاجتماعية بقضايا نشر الحقوق المدنية عن طريق فرضها على التجمعات البيضاء من المحاكم والمؤسسات الحكومية.
في الوقت نفسه لم يتعاطف الليبراليون مع تضحيات الطبقات البيضاء الفقيرة والمتوسطة والتي زادت عليها الضرائب وأصبحت مرغمة على الانفتاح على الأقليات بأمر المحاكم والقرارات التنفيذية، وبدل أن يبدي الليبراليون تعاطفهم مع تضحيات الطبقة العاملة البيضاء اتهم الليبراليون الشعب الأمريكي بالغباء والتعصب لأنه لم يفهم لغة الليبراليين ومبادئهم ما بعد الحداثية.
ويقول مايسي إن دور النخب الليبرالية في حرب فيتنام وما ارتكبته من خداع وتضليل للشعب الأمريكي زاد من شعور الطبقات البيضاء الفقيرة والمتوسطة بعزلة التيار الليبرالي عنهم وعن قضاياهم مما جعلهم يتحولون نحو مساندة المحافظين الذين لا يهتمون بمصالح غالبية الأمريكيين كما يرى المؤلف.
الليبرالية في التاريخ الأمريكي
في بداية توصيفه لعلاج مشاكل الليبرالية الأمريكية، يدعو مايسي الليبراليين – في الفصل الثاني من كتابه – لفهم تاريخ الليبرالية في الولايات المتحدة، وهنا يرى مايسي أن تطور الليبرالية عبر التاريخ الأمريكي هو تطور صعب، فالليبرالية عبر التاريخ الأمريكي مثلت حركة أقلية تواجه صعوبات مستمرة لترويج أجندتها، كما أنها تمر بمراحل نصر وهزيمة متعاقبة، وذلك لوجود تيارات أمريكية محافظة قوية تعارض أجندة الليبرالية التي تنادي بحقوق الأقليات وبعدالة توزيع الثروة.
وهنا يشير مايسي إلى أن الفترات الليبرالية القصيرة في التاريخ الأمريكي عادة ما تلتها فترات محافظة طويلة، فالدستور الأمريكي الذي يعد مصدر القيم الليبرالية في الولايات المتحدة لم يكن يطبق كاملا - حين وضع - إلا على نسبة تقل عن نصف الشعب الأمريكي، أما البقية فقد كانت محرومة من الحقوق، لذا خاضت أمريكا - في مرحلة ليبرالية تاريخية تالية - حرباً ضد الجنوب لنشر القيم الليبرالية وإنهاء العبودية، ويقول مايسي إن الحرب الأهلية الأمريكية نجحت خلال الفترة من 1861 و1876 في نشر الحقوق المدنية في الجنوب، ولكن فور انسحاب القوات الشمالية من الجنوب عادت الأحوال في الجنوب إلى ما كانت عليه تقريبا وتم إقرار نظام الفصل العنصري.
ويقول مايسي إن غالبية الشعب الأمريكي تغاضت عن معاناة الأفارقة في الجنوب وفضلت التركيز على جمع الأموال حتى زاد تركيز الثروة واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء في أمريكا في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بشكل غير مسبوق، مما تطلب تدخل حكومة ثيودور روزفلت ومن بعده ويدرو ويلسون لوضع حد لسيطرة النخب الثرية على الشعب الأمريكي في أوائل القرن العشرين.
ويستمر مايسي في تحليله لتاريخ الليبرالية الأمريكية مؤكدا على كون الليبرالية حركة أقلية في التاريخ الأمريكي تحتاج لكفاح طويل لفرضها في وجه النزعات الرجعية الأمريكية القوية.
ويرى مايسي أن أخر فترات الليبرالية الأمريكية كانت في منتصف الستينات عندما تدخلت الدولة لفرض قوانين الحقوق المدنية ولفرض التشريعات الكفيلة بإنهاء الفصل العنصري ومساندة الأقليات وتقوية المؤسسات الحكومية المركزية والبرامج الخاصة بمساندة الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
تراجع الليبرالية وأثره
على الشعب الأمريكي
يقول مايسي أنه منذ أوائل السبعينات بدأ المحافظون في شن هجوم مضاد على الليبرالية الأمريكية استخدموا فيه بعض أخطر الأساليب وعلى رأسها إحياء النعرات العنصرية في أوساط الطبقات البيضاء خاصة في الجنوب الذي بدأ يتحول تدريجيا بعيدا عن الحزب الديمقراطي ونحو الحزب الجمهوري.
أما الأسلوب الثاني فهو تكتيل مصالح النخب الثرية ضد مصالح الطبقات الوسطى والفقيرة عن طريقة منح الأثرياء مزيداً من الإعفاءات الضريبية، ويقول مايسي إنه خلال الفترة من 1970 وحتى 1990 انخفض مستوى الضرائب المفروضة على أغنى 1% من الشعب الأمريكي من 69% إلى 26% في الوقت الذي زاد دخل هذه الفئة مقارنة بإجمالي الدخل الأمريكي من 6 إلى 16%.
وخلال الفترة ذاتها زادت الضغوط الاقتصادية على الطبقات المتوسطة والفقيرة واضطرت النساء للعمل لكي تحافظ الأسر الفقيرة والمتوسطة على مستويات معيشتها كما زادت نفقات الدفاع على حساب الإنفاق على برامج التعليم ومساعدة الفقراء والخدمات الاجتماعية، كما تضاعفت أسعار المنازل.
ويقول مايسي إنه على الرغم من المشكلات العديدة السابقة والناتجة عن تركيز السلطة في يد النخب الثرية وتشريع مزيد من القوانين التي تخدم مصالح النخب نفسها بمباركة ودعم المحافظين فشل الليبراليون في نشر أجندتهم الليبرالية بل ونجح المحافظون في تصوير الليبراليين على أنهم سبب المشكلة وفي جذب الطبقات البيضاء الفقيرة والمتوسطة نحو الحزب الجمهوري مما يعد مؤشرا على حالة التردي التي وصلت إليها حركة الليبرالية الأمريكية وفقدانها للأجندة والهدف والوحدة والتواصل مع الجماهير وبدأت سنوات تراجع الليبرالية منذ 1975 وحتى الآن.
البداية بإصلاح اقتصاديات السوق داخليا وخارجيا
ولمواجهة التحديات السابقة يدعو مايسي الليبراليين الأمريكيين – في الفصل الثالث من كتابه - لتبني أجندة اقتصادية سياسية تركز في جوهرها على رغبة الليبراليين في تنظيم عمل اقتصاد السوق بشكل يضمن إفادة الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي وليس الأقلية الثرية كما هو الحال لدى المحافظين.
وهنا ينصح مايسي اليسار الأمريكي بتقديم نفسه للأمريكيين كتيار لا يعادي اقتصاد السوق كما يحاول اليمين الأمريكي تصويره، وإنما كتيار يرفض تدخل الدولة إلا في حدود ضمان كفاءة عمل السوق من خلال الاستثمار في الأفراد وتأهيلهم للعمل في الاقتصاد الأمريكي والعالمي سريع التغير، ولحماية الأفراد من تقلبات السوق وفشله، ولضمان أن السوق وقواعد العمل به تخدم غالبية الشعب الأمريكي وليس أقلية قليلة منه، ولضمان غياب الحواجز العنصرية وغير القانونية التي قد تحول بين دخول الفئات الأمريكية الفقيرة والمستضعفة السوق والمنافسة فيه.
وعلى مستوى السياسة الخارجية، يرى مايسي – في الفصل الخامس من كتابه – أن السلام العالمي سوف يسود إذا توسعت الأسواق العالمية وزاد انفتاح اقتصاديات العالم على بعضها بعضا من خلال حركة العولمة الاقتصادية والثقافية، ويرى مايسي أن حركة العولمة تمر في الفترة الحالية بتحدٍ أشبه بالتحدي الذي واجهه الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الأولى وهي فترة زادت فيها الفجوة بين الأثرياء والفقراء في العالم بشكل كبير وغابت فيها المؤسسات الدولية القادرة على حل المشاكل التي نشأت بين دول العالم مما أدى إلى انهيار الاقتصاد العالمي والنظام الدولي في تلك الفترة بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن مساندته وفضلت العزلة، مما قاد إلى قيام الحرب العالمية الثانية.
وهنا يدعو مايسي اليسار الأمريكي إلى عدم التخلي عن العولمة وإلى إعادة ثقة الأمريكيين وشعوب العالم فيها من خلال التأكيد على أنه لا يوجد بديل أمام العالم سوى الانفتاح على العولمة، ومن خلال تأهيل الشعب الأمريكي على التعامل مع قوى العولمة والسوق الدولية ومن خلال التدخل لإصلاح المؤسسات والقوانين الدولية والتأكد من أن قوانين العولمة تراعي خصوصيات الدول الأقل قدرة على المنافسة عالميا وحقيقة أن هذه الدول تحتاج لفترة من التأهيل وبناء المؤسسات والنظم القانونية والسياسية والاقتصادية القادرة على إنجاح مشاركتها في الاقتصاد العالمي.
قوة اليمين وتحديات المستقبل
في الفصل السادس من الكتاب يذكر مايسي الليبراليين بأن طريقهم نحو العودة إلى السلطة والسيطرة لن يكون مفروشا بالزهور، فهو يذكر الليبراليين بأن اليمين الأمريكي نجح منذ السبعينات في بناء شبكة معقدة من المؤسسات التي تخدم مصالحه ومصالح الجماعات المستفيدة من صعوده.
ويقسم مايسي الجماعات اليمينية الأمريكية إلى خمس جماعات أصولية، أولها الجماعات الأصولية الدينية التي تريد بناء دولة دينية في الولايات المتحدة، وثانيها الجماعات الأصولية الاقتصادية التي تؤمن إيمانا مطلقا باقتصاديات السوق وعدم تدخل الدولة، وثالثها الجماعات الأصولية الدستورية التي تريد تفسير القوانين الأمريكي من خلال منطلقات اقتصادية وسياسية يمينية متطرفة، ورابعها المحافظون الجدد، وخامسها الجماعات التي تتبنى أفكار التيار التحرري والتي تؤمن بالحد من دور وحجم مؤسسات الدولية إلى أقصى حد ممكن.
ويقول مايسي إن الجماعات الأصولية السابقة دخلت في تحالف مع جماعات إضافية تسلقت أجندة اليمين وعلى رأسها الشركات الكبرى والأثرياء، والجماعات العنصرية الجنوبية، وبنت مع بعضها بعضا شبكة هائلة من المؤسسات الفكرية والسياسية والدينية والإعلامية.
وأخيرا ينصح مايسي الليبرالية الأمريكية بالاستعداد لكفاح طويل وشاق من أجل العودة للسلطة مؤكدا على أن مفتاح عودة الليبرالية يكمن في التحالف مع الأقليات والنساء والمهنيين والطبقة البيضاء العاملة والمتوسطة وتبني أجندة اقتصادية سياسية تضمن أن يخدم السوق مصالح الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي الذي طحنته سياسات المحافظين خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
■ عرض: علاء بيومي
مدير الشؤون العربية بـ (كير)