الحسين نعناع الحسين نعناع

الماغوط انتظر الموت جالساً على أريكته العصفور الأحدب خارج الأسراب والأسوار

رفع سماعة هاتفه طالباً سنية صالح وبعض المقربين في عالم لم يخبره بعد محاولا تبديد وحشة ذلك النهار الربيعي الذي طالما استعان بذكريات خريفية للانقضاض على أوصاله التي لم يكن ليعتاد عليها ، جال بنظره على جدران غرفته وواسى نفسه بإحصائها فألفاها ملاييناً قد نقصت واحداً ، أعاد عدَها فألفاها ملاييناً قد زادت واحداً فازداد حزنه وطاول قامات أشجار الحور العالية.

■ أحس بالعلقم يملأ فمه فملأ النحيب قلبه

استدعى غيوماً كان قد خبأها على أرصفة وطنه المدد حتى شواطئ الأطلسي، وطالبها بمطر ربيعي حار كي ينتقل إلى مدينة نائية، فحقائبه قد امتلأت بالجراح والهزائم:

المطر لي

المطر والرعد والريح والشوارع

هي ملكي

ومعي وثيقة من السماء بذلك

غبّ دخان سيجارته وعبثاً بحث عن سيّاف يقتصل أعناق الزهور في أرض عدن ليسأله ويستجديه حكمة صغيرة  :

ولدت عارياً وشببت عارياً

كالرمح.. كالإنسان البدائي

سأنزع جلود الآخرين وأرتديها

سأنزع جلود السحب والأزهار والعصافير

وأرتديها

■ ومع الموت يكتب ويدخن ويقول الكثير، أصدقاؤه غابوا منذ بدأ يتكلم :

يخيل لي أنني أكثر الأموات كلاماً

لقد جئت متأخراً إلى هذا العالم

كزائر غريب بعد منتصف الليل

كان يجب أن أخلق مع أولئك الرومانتيكيين القدامى

ذوي اللحى المتهدلة والياقات التي يأكلها العثّ

■ أشعل ثورات وأحرق أضلاعه لينتظره مؤمنون جدد:

أنظر خلسة إلى الشرفات العالية

إلى الأماكن التي ستبلغها أظافري وأسناني

في الثورات المقبلة

فأنا لم أجع صدفة

ولم أتشرد ترفاً أو اعتباطاً

«ما من سنبلة في التاريخ

  إلا وعليها قطرة من لعابي»

■ ويعاقب أعداؤه ومحبيه معاً بأن سيقذف بوصاياه إلى الريح:

وأنتم يا أعدائي وأحبابي

يا من تقرؤنني فوق السروج والصهوات

يا من تقتاتون على حزني كالكلاب الضارية

سأقذف هذا القلم إلى الريح

سأدفنه كالطائر بين الثلوج البيضاء

وأمضي على فرس من الحبر.. ولن أعود

■ ويعلن رحيله إلى عالمه الواسع دون أن يلتفت إلى الوراء :

أحزم كتبي وأدواتي كالقمح خلف ظهري

وهراوة في حزامي

وأمضي داخل الغابات الخضراء

في الضباب والأوحال والمستنقعات أحتسي الخمر

وآكل الحشائش والطيور النائمة

وأقذف مع زجاجتي ومحبرتي كل ليلة خارج الحانات

■ فكر أن يكتسح العالم طالما امتلك عينين زرقاوين و نظرات شاعرية  فوجد نفسه غريباً يستمع موسيقى النحيب :

أيها العرب ، يا جبالاً من الطحين واللذة

يا حقول الرصاص الأعمى

تريدون قصيدة عن فلسطين

عن الفتح والدماء ؟

أنا رجل غريب لي نهدان من المطر

وفي عيني البليدتين

أربعة شعوب جريحة تبحث عن موتاها

■ وكساعي بريد لجميع الجياع في الأرض، طفق يجمع أمنيات السجناء وشباك الصيادين الفارغة وأسمال الفلاحين :

إنني أعدّ «ملفاً ضخماً»

عن العذاب البشري

لأرفعه إلى الله

فور توقيعه بشفاه الجياع وأهداب المنتظرين

ولكن أيها التعساء في كل مكان

جل ما أخشاه أن يكون الله «أمياً»

■ ولأن الأرصفة سريره والمقهى والشارع موطنه يوجه إلى حبيبته دعوة كريمة : 

حبيبتي.. هم يسافرون ونحن ننتظر

هم يملكون المشانق ونحن نملك الأعناق

هم يملكون اللآلئ ونحن نملك النمش والتواليل

هم يملكون الليل والفجر والعصر والنهار

 ونحن نملك الجلد والعظام

والآن هيا لننام على الأرصفة يا حبيبتي

■ عندما تعصف الحمى بذاكرته ينسى من أيّ البلدان أتى، فتقطر جبهته رملاً أصفراً أحمراً وشفافاً:

آه كم أتمنى .. لو أستيقظ ذات صباح

فأرى المقاهي والمدارس والجامعات

مستنقعات وطحالب ساكنة

خياماً تنبح حولها الكلاب

لأجد المدن والحدائق والبرلمانات

كثباناً رملية

آباراً ينتشل الأعراب ماءهم منها بالدلاء

■ يطالب أرضه بدين قديم، مادامت الحرية على هيئة كرسي صغير للإعدام :

قولوا لوطني الصغير والجارح كالنمر

أنني أرفع سبابتي كتلميذ

طالباً الموت أو الرحيل

ولكن.. لي بذمته بضعة أناشيد عتيقة من أيام الطفولة

وأريدها الآن

■ هو لم يولد كسائر البشر حتماً، فهو المطلوب رأسه ودمه المذعور حتى قبل أن يولد:

آه يا حبيبتي

عبثاً أسترد شجاعتي وبأسي

المأساة ليست هنا

في السوط أو المكتب أو صفارات الإنذار

إنها هناك.. في المهد .. في الرحم

■ الظلام قابع في داخله مذ أقحموه عنوة  في ثناياه ،  و قد جاهد أزماناً لتبديده :

أضحك في الظلام

أبكي في الظلام

أكتب في الظلام

حتى لم أعد أميز قلمي من أصابعي

كلما قرع باب أو تحركت ستارة

سترت أوراقي بيدي

كبغي ساعة المداهمة

■ لذا يعلن أنه قد هزم فيهزمنا، نفتش معه عن ذرىً لا تزال ناتئة لنرفع فوقها راياتنا الخفاقة :

حسناً أيها العصر.. لقد هزمتني

ولكنني لا أجد في كل هذا الشرق

مكاناً مرتفعاً

أنصب عليه راية استسلامي