حجر الدومينو الأول
قبل بضعة أيام تعثّرتُ بصفحة على الفيس بوك بعنوان «كلنا منال الشريف – دعوة للتضامن مع حقوق المرأة السعودية»، فاستبشرت خيراً ورحت أقرأ. منال التي اعتقلت في 22 أيار، لقيادتها سيارتها في شوارع الخُبر ووُجهت إليها تهمة «تحريض النساء على قيادة السيارات وتأليب الرأي العام» (!!) كانت قد أطلقت حملة على الفيس بوك تدعو السعوديات لقيادة سياراته في 17 حزيران القادم، دون مظاهرات، دون اعتصامات، دون مواجهات، بل بقضاء تنقلاتهن اليومية الاعتيادية خلف المقود وليس خلف رجل ما، لا أكثر ولا أقل.
هذه الدعوة البسيطة جداً، المحقّة جداً، كانت مدعاة للاستنفار الشامل بين العديد من رجال الدين والإعلاميين السعوديين، الذين شحذوا ألسنتهم وراحوا يتبارزون في شتم منال الشريف وأمثالها، وتخوينها وتكفيرها. فهي، حسب هؤلاء، ليست سوى «حُرم» متأمركة جاءت لتعيث فساداً في بلدها الآمن، بعد أن عُبّئ دماغها بالضلالات التي تلقتها أثناء دراستها في الولايات المتحدة. وقد وصلت الوقاحة ببعض هؤلاء إلى حد المطالبة بجلد منال، وكل من تستجيب لدعوتها، في سوق عامة، بينما دعا أحد رموز التطرف والطائفية من رجال الدين «ولاة الأمور» إلى اتخاذ ما يلزم لمنع السعوديات من المضي في مساعيهن، بل وتمنى الموت لكل من «لا تغير على عرضها» وتلقي بنفسها في دغل يعج الفاسقين -هو في الوقت نفسه مجتمع غاية في المحافظة!- وتعمل على نشر الفتنة بفتلة مفتاح ودعسة بنزين!
إن هذه المحاولات لإجهاض حملة هدفها الأول استعادة كرامة المرأة السعودية لم تقتصر على الشخصيات العامة، بل امتدت إلى وربما انبثقت من، تيارات واسعة بين المواطنين -والمواطنات!- رأت في الدعوة إلى قيادة المرأة لسيارتها مجرد فقاعة إعلامية لا تمثّل مطلباً جديّاً للسعوديات بقدر ما تعبّر عن محاولة للفت النظر. وعلى الرغم من اعتقادي بالجدية التامة للنساء السعوديات في حملتهن، إلا إن لفت النظر بحد ذاته إلى حقيقة مخزية لكل إنسان تعني له الحرية شيئاً ليس أمراً معيباً على الإطلاق!
النظام السعودي الذي استنفد قواه بين دور المنقذ من المشروع الفارسي في المشرق العربي بتغذية فزّاعة التشيّع، ودور الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، لا يستطيع أن يفهم بأي حال من الأحوال من أين تنبثق المطالب النسوية بحقوق السعوديات. فلغة المواطنة والحرية دخيلة على آذان أمراء القمع الذين يرون في المطالبة بالحق ابتزازاً يستجيبون له بالشتائم أو الرشاوى، وليس أدلّ على ذلك من ردة فعل خادم الحرمين -والحرمين على ما يبدو هما ميشيل أوباما وسارة نتنياهو- تجاه الاحتجاجات المطالبة بإصلاح النظام، خاصة إزاء حقوق الأقليات الطائفية. إذ أن الطريقة الوحيدة التي تعامل بها الملك مع هذه المطالبات هي بمحاولة رشوة أصحابها بتوزيع مليارات الدولارات على المواطنين، وكأن تغيير السيارة أو إعادة تأثيث الفيلا سيزيل الشعور بالظلم، تماماً كما سينسي وجود السائق أو الحارس الشخصي المرأة أنها لا تزال تُعامل كملحق بذَكر، أياً كان موقعه!
إن الربط الاعتباطي، المبتذل، المثير للاشمئزاز بين مطالبة المرأة السعودية بأبسط حقوقها من جهة، ووصفها بداعية للتغريب والانحلال الأخلاقي وتهديم البنيان الاجتماعي من جهة أخرى، هو أكبر دليل على إفلاس الخطاب الذكوري المتسلّح بتفسير بدائي متحجر للدين، معادي للمرأة والزمن بل وللدين نفسه، وعلى أن عمليات التهويل والترهيب من أن انتزاع المرأة لحقوقها هو باب للمفاسد وجلب الويلات للمجتمع السعودي لم تعد تجدي نفعاً، ولم يعد بالإمكان إسكات النساء اللاتي سئمن هذه المسرحية المقيتة التي تصور السعودية على أنها جنة عدن فصرخن بسخط بأن الملك -أو رجل الدين في هذه الحالة- عارٍ تماماً!
منال الشريف لم تكن سوى حجر الدومينو الأول في طابور السعوديات الرافضات للتهميش، والأصوات التي ستعلو مطالبة بالحياة الإنسانية الكريمة للنساء تتكاثر وتنتشر. وسنتذكر يوماً ما بأنّ كل ما تطَلبَه هذا التغيير هو «لا» واحدة، تردد صداها في أرجاء السعودية، بينما سيتذكر الرجعيون من المعادين للعقل والتعقل أنهم كانوا على الجهة الخطأ في هذا النزال من أجل الحياة والحرية.