مهند عمر مهند عمر

قبلات حارة في حانة رخيصة

تدخل المكان فتشعر للوهلة الأولى أنك تدخل خيمة للبغاء في الجاهلية، وأن كل كفار قريش يجلسون حولك، وترى أكداساً من اللحم الملون لا تشبه شيئاً إلا نفسها، إنها حانة باريسية رخيصة جداً، رخيصة بكل تفاصيلها، تبدأ باحتساء ذاك الخمر الرخيص ذي التأثير القوي جداً، لتكتشف معه أدق تفاصيل المكان، ولتبدأ فجأة بإلقاء نظرة عن كثب على «النساء» اللاتي يتنقل بين طاولات السكارى، ويلقين بكل مفاتنهن – إن وجدت - في حجر من يدفع أكثر.

مع الكأس الثانية تسقط الصورة النمطية للمرأة، والتي تفننت في رسمها على مدار سنين طوال، وتعود مراهقاً يبحث عن وعاء صديد يلقي فيه حيواناته المنوية، تقارع كأساً تلو الأخرى، وبعد أن تشعر بثقل في رأسك، وتهزه بشدة لتستعيد قدرتك على التركيز، تقفز صورة الشرق الجميل إلى مخيلتك، ذاك الشرق الذي أسهب أدباء الغرب في وصف سحره وجماله، فالمكان يعج بالعرب (زبائن، وقوادين، وعاهرات) وجميعهم يخلصون في أداء أدوارهم وأعمالهم فالزبون يستعرض ذكورته المفرطة، وأمواله التي جاء ليشتري بها جارية لليلة واحدة، ويضاجعها تحت مسمى «ما ملكت أيمانكم» والقواد يتفنن في سحب النقود من ذاك «الخاروف» العربي الذي جاء يشتري الهوى، والعاهرات يجدن عرض بضائعهن على علاتها.

سيفاجئك التأثير السحري للخمر في ذاك المكان، فعلى حين غرة ستجد نفسك تبحث بين مفردات ذاكرتك عن كل الصور التي زجتها الدراما العربية لهارون الرشيد وجواريه، ولأبي ليلى المهلهل وعشيقاته، عندها فقط تسمح لنفسك بدعوة كل «النسوة»  في ذاك المكان ليشاركنك طاولتك الصغيرة التي لم تعد تتسع لك، ليطعمنك عنب الشام وبلح اليمن، ولتحظى بقبل حارة تلهب شفتيك، هنا تطغى شرقيتك وذكوريتك الموروثة عن جدك الأول - قحطانياً كنت أم عدنانياً - على تلك القشرة التحررية التي تكتسي بها طوال العام لتعود إلى تقليديتك المقيتة، وتلقي كل الحداثة التي تدعي في كأس خمرك الرخيص.

ومع هذه الشرقية المتعالية، ورغم كل «العروبة» التي كانت تتطوف حولي في ذاك المكان الحقير، شعرت بأن رائحة الاستعمار والإمبريالية اللتين اعتدنا ذمهما، تتفوح من موسيقا المكان التي لم تكن عربية أبدأً، ولكن كانت الأجساد «العربية» تتلوى كحيات تحت أشعة الشمس، على وقع تلك الموسيقى.

القبلة تلو الأخرى، والكأس تلو الأخرى، والموسيقى تكاد تصم أذني... الحالة استمرت طوال الليل، صحوت صباحاً لأجد نفسي ملقى على سريري في منزلي في دمشق، تشاركني السرير زجاجات من الخمر الباريسي الرخيص الذي استطاع لشدة تأثيره أن ينقلني ثملاً عبر الأثير نحو بلاد منشأه التي لم أزرها مطلقاً.

آخر تعديل على الإثنين, 17 تشرين1/أكتوير 2016 21:36