ستيركوه ميقري ستيركوه ميقري

تأملات طائفية جداً

1

لم يكن الماهاتما غاندي محرر الهند من الاستعمار البريطاني رجلا عاديا بل كان استثنائيا بامتياز فقد واجه الرصاص بصدره العاري وحارب الاستعمار الذي استند دائما إلى عنف بغيض باللا عنف حيث  قاد مئات الملايين على طريق الحرية بقوته الروحية واللا عنف لا تعنى السلبية والضعف كما يتخيل البعض بل هي كل القوة إذا آمن بها من يستخدمها وكما تقول الماركسية بأن الكلمة تتحول إلى قوة مادية عندما تتملكها الجماهير وحينئذ يمكن للعين أن تقاوم المخرز يقول غاندي :«في البدء يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر».
لقد ناضل الماهاتما غاندي ضد التفرقة الطائفية وبقوة لا مثيل لها وكان ضد انقسام الهند إلى دولتين هندية وإسلامية بل كان يقول عن نفسه بأنه هندوسي وسيخي وبوذي ويهودي ومسيحي ومسلم في آن واحد وذلك حفاظا على الوحدة الوطنية في نضال كل مكونات الشعب الهندي ضد الاستعمار البريطاني والمؤسف أن هذا الشخص الفريد والذي قاد الهنود للتحرر وقع ضحية الطائفية التي نبذها وناضل ضدها حين اغتاله أحد المتطرفين الهندوس الذين اعتبروا غاندي متساهلاً مع المسلمين أكثر مما تسمح به مصلحة الهند

 2

وطننا يقف الآن أمام منعطف خطير يهدده بوجوده وكيانه ودون توفر البوصلة الوطنية لدى كل مواطن سوري سنجد أنفسنا ضمن أتون حرب لا قبل لأحد أن يتحمل عواقبها التي لا تحمد، ونتائجها الكارثية التي يستحيل التخلص من ذيولها لسنوات أو عقود طويلة إنها الطائفية والتعصب المذهبي هذا الضاري الذي إن شحذ مخالبه فإن الوطن سيكون طريدته وأبناءه سيكونون فطوره وغذاءه وعشاءه وعلينا دائما حين نتحدث عن قول النبي العربي «اختلاف أمتي رحمة» أن لا ننسى شرطا مدغوما في هذا الاختلاف الرحمة وهو التسامح الديني فإن انقلب إلى ضده المتمثل بالتعصب أصبت الرحمة مصيبة بل كارثة هائلة إن حلت حل معها التشرذم والخراب والفتن ونحن بتمسكنا بالتعصب الطائفي البغيض نقف على أعتاب قاب قوسين أو أدنى من هذه الكارثة..
إن التعصب الديني والطائفي الذي ينخر عقائدنا فرق الدين ومزقه إلى أديان بعدد الطوائف المنبثقة عنه بمعنى أن الدين الإسلامي لم يعد دينا بطوائف متعددة بل كل طائفة منه الآن دين يختلف عن الآخر كليا ونحن الآن أمام إسلام سني غير موحد حنفي وشافعي وحنبلي ومالكي وإسلام شيعي وزيدي واثني عشري وإسلام علوي وإسلام إسماعيلي وإسلام درزي وكل هذه الطوائف تتعصب لنفسها ضد الآخرين هذا الإسلام مرشح للتوحد في حالة واحدة كما تبين سابقا هي حالة التسامح بهذه الحالة فقط يصبح الإسلام واحدا ومنبعا أوحدا لمذاهبه كلها  ويا أيها الناس أيها السوريون دعوا التعصب جانبا وتمسكوا بتسامحكم الذي ساد هذه البلاد قرونا والذي يهدد كيانها وناسها وتذكروا «بأن الدين لله والوطن للجميع».

3

منذ أن وعيت هذه الدنيا وأضحيت أتلمس المحيط الذي أعيش  فيه، وأصبحت قادرا على أن أميز بين أهلي وجيراني وأبناء الحي الذين كبرت معهم درست ولعبت وتشاجرت، وكنا نحيا حياة بسيطة لا تعقيد فيها ولا تعصب بل تسامح لا حد له، كان ذلك في أواسط خمسينيات القرن الماضي، كان من بين الأطفال الذين نعيش معهم ونلعب ونلهو سويا ونذهب للمدرسة برفقتهم ويذهبون للعب برفقتنا عدة أطفال من عائلة واحدة كانت تعيش في حينا، ولكن أصولها لم تكن من أصول أبناء الحي وهو حي الأكراد ولم يكن شارع ركن الدين موجودا أصلا بل كان نهر يزيد يشكل الحدود الجنوبية لهذا الحي، وكانت هذه العائلة الوحيدة الغريبة عن الحي ولكن التسامح هو الذي مكنها من العيش بيننا على الرغم من أنها عائلة مسيحية وليست مسلمة، وقد عرفنا مغزى ذلك بعد أن كبرنا وكان الحي في ذلك الوقت منغلقا لا يسمح للغريب في أن يتواجد ويعيش فيه إن لم يكن هناك من يدعمه من أبناء الحي الأصليين، بقيت هذه العائلة تعيش بيننا إلى بداية الثمانينيات، حيث تفجرت مشكلة الإخوان المسلمين الذين لم يألوا جهدا إلا واستخدموه لكي يحرضوا الناس ضد بعضهم، مستخدمين شعاراتهم الطائفية التي تمزق الوحدة الوطنية وتحرض الأخ على أخيه، فجأة هاجرت هذه العائلة بل قل هجرت بسبب هذا الخطاب الطائفي الغريب الذي حل ضيفا بغيضا على معتقداتنا وتسامحنا ووحدتنا الوطنية، والآن وأنا في الستين من عمري أدركت أن عدوا يعيش بيننا وعشش في قلوب البعض غير القادر على قبول الآخرين، ولم يفهم الإسلام على حقيقته وارتبطت مصالحه الطبقية بالأعداء الخارجيين، هذا البعض المتأسلم الموتور المكفر للآخرين وهو متحفز ومتأهب لتفجير المساجد ودور العبادة فوق رؤوسنا تحت ستار الجهاد والدفاع عن الدين متناسيا قول بشار بن برد :
إذا كنت في كل الأمور معاتبا
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش وحيدا أو صل أخاك فإنه
مقارف ذنبا مرة ومجانبه

نعم لقد هاجرت هذه العائلة حينا، بعد أن عاشت فيه نصف قرن تقريبا مرحب بها وانقطعت أخبارها عنا حتى الآن.

4

في البداية تحدثت عن عظمة الماهاتما غاندي ونضاله لتحرير الهند من الاستعمار البريطاني عبر تسامحه وسياسة اللاعنف التي سنها لنضاله، لأسأل وأجيب أيضا على هذا السؤال، وهو ألا يوجد بيننا من يحمل بداخله ما حمله غاندي، لأجيب فورا: نعم.. كم من آلاف الشباب يعيشون بيننا ويحملون الأفكار نفسها التي تجسدت في شخصية غاندي العظيم، ودليلي على ذلك أنه في إحدى المرات التي كنت خلالها أتناقش مع عدد من الصبايا والشباب حول التعصب وخطره على أمن ووجود وطننا، قالت إحدى المشاركات في النقاش إليكم هذه القصة التي جرت معي هذا العام في كلية الصيدلة التي أدرس فيها.. كان أحد الطلاب الذين تعرفت عليهم يتأخر عن الحضور إلى الكلية يوم الأحد، فسألته عن سبب هذا التأخر في هذا اليوم تحديدا فأجاب بأنه يذهب مع والدته إلى الكنيسة لتأدية الصلاة بعد عدة أشهر، وكان الجو حارا انتبهت إلى شفاه زميلي هذا فقلت له: لماذا شفاهك جافة هكذا اذهب واشرب قليلا من الماء وضع عليها مرهما لإزالة الجفاف فأجاب بأنه صائم، وكان شهر رمضان في أوله، هنا تقول الصبية بأنه أسقط من يدها كيف يمكن لمسيحي أن يصوم مع الإسلام في رمضان، فتجرأت وسألته فقال لها: في الحقيقة أن والدي مسلم ووالدتي مسيحية وما أن وعيت على هذه الحقيقة حتى ألزمت نفسي بأن أمارس الشعائر الدينية المسيحية والإسلامية معا، فأنا أذهب مع والدتي في كل أحد إلى الكنيسة للصلاة، وأصوم معها صيامها، حيث أمتنع عن أكل  المنتجات الحيوانية حتى عيد الفصح حيث ينتهي الصوم كما ألزمت نفسي على أن أرافق والدي في كل يوم جمعة لصلاة الظهر في المسجد وأن أصوم طيلة شهر رمضان علما بأنني أعتبر نفسي علمانيا وأن الدين لله والوطن للجميع وإن فرقنا الدين قليلا وحدنا الوطن كثيرا .

5

إذا كانت الحرب شكلا من أشكال السياسة أو استمراراً للسياسة بأشكال أخرى، فإن اللاعنف أيضا إحدى أشكالها، ولكن السؤال هو: كيف يمكن للا عنف أن ينتصر على العنف ويهزمه، فإن كان العنف الذي قد يتحول إلى حرب هو لغة العاجز الذي عجز عن استخدام أشكال السياسة الأخرى لتحقيق مآربه في السيطرة وبسط النفوذ، فإن الحرب التي هي استمرار للسياسة عادة ما يتم اللجوء إليها كحل أخير للأزمات بعد استنفاذ كل الأشكال الأخرى الممكنة، في إطار سياسة الترغيب والترهيب، ولكن عندما يتم اللجوء إليها في البداية كشكل وحيد للحل فإنه إما دليل عجز فاقع  للطرف التي يستخدمها، أو هو استعجال للحل وتقديمه على كل الحلول الأخرى للوصول إلى نتائج مختلفة عن تلك التي يعلنها هذا الطرف، وأما الطرف المقابل الذي يستخدم اللا عنف تجاه العنف الممارس، عليه فإنه لا شك يستخدم لغة العقل التي يمكن في ظروف مواتية أن تصبح سلاحا في وجه من يمارس العنف ضده وعلينا أن لا ننسى بأن «الفقر هو أسوأ أشكال العنف» كما يقول غاندي، وتجارب التاريخ تخبرنا قصصا عديدة عنه ربما من أهمها تمكن الرسول العربي مع قلة من أصحابه على استخدام هذا الشكل من السياسة في بداية دعوته، فاستطاع بعد أن قوي عود الدعوة من هزيمة قريش في عقر دارها، ثم ألم تكن ثورة أكتوبر في بداية انتصارها ثورة بيضاء تقريبا، هنا لابد من القول أن استخدام الحل الأمني كحل وحيد للمشاكل التي نتعايش معها الآن لن يوصلنا إلا إلى نتائج أخرى مضمرة في رأس من يستخدمها، أقلها استمرار التعايش مع هذه المشاكل دون حل جذري لها، بمعنى أن هذه المواجهة التي قد تنتهي مؤقتا بالحل الأمني سيجري تأجيلها إلى زمن ما لتعود وتتفجر ربما أكثر حدية من قبل، لذلك يصبح اللاعنف كلغة للعاقل أكثر تعبيرا وأشمل حلا من العنف المرافق للحل الأمني، حفاظاً على الوطن و حفاظاً على كرامة المواطن