بيتر أوتول قمة في السينما والمسرح
نديم جرجوره نديم جرجوره

بيتر أوتول قمة في السينما والمسرح

لم يكن الإيرلنديّ الرائع بيتر أوتول مجرّد ممثّل عابر، تحوّل سريعاً إلى مرادف لشخصية سينمائية واحدة، قدّمها ذات مرّة فالتصقت به، بالنسبة إلى البعض على الأقلّ.

فلا هو ظلّ محصوراً بشخصية واحدة، ولا نظر منتجو السينما والمسرح وصانعو عناوينها الراقية إلى هذه الشخصية فيه. كان أكبر من أن يبقى «لورنس العرب»، لأنه كان أجمل من أن يحوّل أداءه البديع إلى صورة نمطية ثابتة. صحيحٌ أن «لورنس العرب»، الفيلم الذي صنعه ديفيد لين في العام 1962، أي بعد عامين اثنين فقط على بداية المسار السينمائي للممثل، شكّل إحدى العلامات الفارقة في مهنته التمثيلية، مُسلّطاً عليه ضوءاً بدا مستحيلاً إطفاؤه، ليس بفضل «عبقرية» أداء هذه الشخصية، بل لأن بيتر أوتول نفسه اجتهد لاحقاً في تحويل التمثيل إلى مهنة متفوّقة، أحياناً، على المعنى التجاري والصناعي والمالي للكلمة.

وصحيحٌ أن التوغّل في إحدى الشخصيات الملتبسة والمعقّدة، على مستوى شبكة العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة بين العرب والغرب في ظلّ الحرب العالمية الأولى، منحه إمكانية تثبيت حضور فاعل في المشهد السينمائي الدولي. إلاّ ان بيتر أوتول، القادم إلى بلاتوهات السينما من «تدريب» مهنيّ على خشبات «المسرح الملكي في لندن»، تحرّر من وطأة هذه الشخصية وحضورها القوي في لحظة تاريخية ما، مُقدِّماً في الأعوام اللاحقة أدواراً متنوّعة، عكست براعته في جعل التمثيل مهنة واحترافاً، كي لا أقول «عادة» يومية يتعاطى معها بسهولة وتجاوب جميلين.

رحيل بيتر أوتول يوم السبت الفائت عن 81 عاماً يُشكّل، بحدّ ذاته، لحظة تأمّل في مسار رجل حمل المسرح إلى عالمه السينمائي، من دون أن يجعل المسرح طريقة أداء سينمائي. فالعودة إلى لائحة الأفلام التي قدّمها بعد «لورنس العرب» تكشف أدواراً وأفلاماً مرتبطة، بطريقة أو بأخرى، بالمسرح ونتاجاته وعوالمه المختلفة. ذلك أن مشاركته الممثِّلَين ريتشارد بورتون وجون غيلغود في فيلم «بيكيت» (1964) لبيتر غلينفيل، المأخوذ عن مسرحية «بيكيت أو شرف الله» (1959) لجان آنوي، مؤدّياً فيه دور هنري الثاني ملك بريطانيا، مَكّنه من المزج بين عالم المسرح الذي أحبّ، ومفردات الاشتغال السينمائي التي أتقن الانصياع لها، جمالياً. حتى أن تأديته شخصية كاليغولا، في الفيلم الذي أخرجه تينتو براس في العام 1979 بالعنوان نفسه، حمل في مناخه العام ما يشي بحسّ مسرحي مبطّن. كما أن تأديته دور آخيل في الفيلم الأميركي «طراودة» (2004) لوولفغانغ بيترسن، لم يكن «مُنزَّهاً» كلّياً عن الفضاء المسرحيّ، المتمثّل بتأثيرات الأساطير الإغريقية وانسجامها والمساحة المسرحية في بناء العوالم والشخصيات، مع التأكيد على أن أوتول أبرع من فَصَل هذين العالمين أحدهما عن الآخر، في أعماله التي لم تخلُ من مشاركات مسرحية عرفتها خشبات لندن.

لكن بيتر أوتول (مواليد 2 آب 1932) لم يكن ممثلاّ سينمائياً «ناجحاً» دائماً في الأفلام الثمانين (تقريباً) التي مثّل فيها منذ العام 1960. لعلّ التعليق النقدي الوارد في سياق بثّ نبأ رحيله يكفي للتأكيد، مجدّداً، على أن الرجل عرف تماماً كيف يجعل التمثيل صُنعَةً تحتمل الإبداع، لكنها لا تتخلّى عن المهنة، بالمعنى الوظيفيّ البحت. اختصر التعليق سيرة سينمائية متكاملة، إذ قال إن هذه الأفلام التي مثّل أوتول فيها، تراوحت بين «الأكثر ملحمية والأكثر تفاهة». وإذا مثّل أوتول في ثمانين فيلماً، فإنه مثّل في ثمانين مسرحية أيضاً، بعضها منتمٍ إلى روائع الأعمال الكلاسيكية، خصوصاً «هاملت» و«ماكبث» لويليام شكسبير.

لذا، ألا يُمكن القول إن الملامح القاسية في وجه بيتر أوتول، وزرقة العينين اللامعتين لـ«لورانس العرب»، والقامة الممشوقة كقالب من حيوية وحماسة، تعكس كلّها «شخصية مسرحية» قادمة من أعماق التراجيديا اليونانية، وبهاء العالم الشكسبيري، وقوة الألم والسلطة التي تصنع من الرجال أشكالاً أخرى للسطوة والعنف والانهيار والشقاء؟

 


المصدر: السفير