مذكرات مخبر عتيق... (6) المرتشي يحتاج إلى مظلة تخفيه
رويت لكم في الحلقة السابقة رأي الصديق التركي حول صعوبة إدخال المرأة إلى عالم الرشوة، ثم دخلنا إلى قاعة المؤتمر لمتابعة أعماله.
قبل أن يبدأ المؤتمر أعماله، ويتابع الأمين العام تقريره ليلخص علاقة المنظمة بمنظمة الشفافية العالمية، همَّ رئيس المؤتمر لإعطاء الكلمة للأمين العام، لكنه قال: أيها السادة المراقبون الضيوف، أيها السادة أعضاء المؤتمر: أود أن أتحدث معكم في ثلاث مسائل: الأولى أنني بعد هذا العمر المديد الذي تجاوز الثمانين.. وأنا أشغل منصب رئيس المنظمة منذ عشرين سنة، ورئيس منظمتي القطرية، وعلى مر السنين، ومتابعتي لكافة التقارير العامة والفرعية، فإني وبعد هذا العمر، وهذه الخدمة والمتابعة المستمرة لشؤون المرتشين في العالم، وتطوير أساليب الرشوة، حسب تطور التقنية، والقوانين الجديدة التي تحاول حصار هذه المسألة، والأساليب المتحايلة للمرتشين، والتعب والمعاناة التي يعيشونها، والخسائر البشرية، فكم من مرتش انتحر، وكم من مرتش مات بسكتة قلبية أو دماغية، حيث وصلت النسبة إلى 25% بالإضافة إلى من دخل السجن وسرح من الوظيفة، وهناك 25% ممن تأذوا في سمعتهم وأخلاقهم، واحمرت عين الرقابة عليهم، وهؤلاء معرضون للقبض عليهم متلبسين وبالجرم المشهود في أي لحظة، و50% لايزالون يمارسون أعمال الرشوة، ولم ندخر جهداً لتطوير أساليبنا وطرق عملنا، وابتكار أشكال جديدة من الرشوة لايعاقب عليها المرتشون، وبناء عليه فقد كلفنا لجنة الدراسات القانونية لابتكار أفكار جديدة، وأساليب لايطالها القانون، بعد كل هذا التعقيب عبر السنوات الطويلة، قررت التوبة والذهاب لأداء فريضة الحج هذا العام، لعل رب العالمين يغفر لي ذنوبي، لهذا قررت أن أتقدم باستقالتي لمؤتمركم العتيد، وأرجو أن تتقبلوا قراري هذا لأنني لن أتراجع عنه.
علمتُ بعد ذلك بأن رئيس المنظمة من اندونيسيا، وعمل تحت جناح سوهارتو، وهو الذي كان يحميه طوال تلك الفترة، وبعد ذهاب سوهارتو، بدأت المحاسبة للطاقم بأجمعه، بما فيهم ابنه، وقرر عدم الذهاب إلى اندونيسيا إلى أن تنتهي زوبعة المحاسبات، ومن خلال نفوذه ورشوته لبعض أفراد الطاقم الجديد، أُسقط اسمه من المحاسبة.
المسألة الثانية: تتعلق بتعقيب على التقرير الذي ناقش اتفاقية مكافحة الفساد في الأمم المتحدة، وهنا أود أن أقول بهذا الصدد كلاماً مختصراً ومكثفاً ومعبراً عن عصارة تجربة عمرها أكثر من نصف قرن في ممارسة الرشوة.
تجري الرشوة عادة بين ثلاثة: الراشي والمرتشي والرائش بينهما، طبعاً بعد فترة من العلاقة، يختفي الرائش لتصبح العلاقة مباشرة بين الراشي والمرتشي، المهم أن هذا الثالوث قد توطد في الثلاثين سنة الأخيرة وبخاصة بعد فورة (البترو دولار) عام 1974 بحيث تطورت الأمور والعلاقات أصبحت بينهم حميمية، وعممت ثقافة الرشوة، فسادت مفاهيم جديدة تشجع هذه المسألة، وكبر حجم المرتشين، إذ أن المسؤولين في الدول المصدرة والدول المستوردة دخلوا على خط الرشوة وأصبحوا شركاء تحت الطاولة، وازدادت ثرواتهم على حساب المصلحة الوطنية، إذ أن المراحل السابقة كان الراشي يقدم جزءاً من نسبة السمسرة للمرتشي، أما مسؤولو العالم الثالث، فقد أعمى الجشع بصيرتهم، وصاروا يطالبون بنسب أكبر من المتعارف عليها في الشركات التي اضطرت لرفع أسعار منتجاتها إلى أكثر من 50%، وإعطاء المسؤول 20%، أي ارتفاع المنتج 30%، الأمر الذي يقع على كاهل الدول المستوردة الفقيرة، هذا الجشع والطمع الذي لم يعد له حدود، وأنتج ثقافة جديدة، وأخلاقاً جديدة تسود المجتمع العالمي حالياً، أودت بكل القيم السابقة، وأصبحنا في عالم يتهدده الانهيار، ونحن المرتشين لانستطيع أن نمارس هذه المسألة إلا في مجتمع مستقر له قوانينه، ونعمل على أن يكون لنا وجود وحضور اجتماعي لائق، أما الراشي فلايهمه من أين يأتي الربح ولا كيف، ولايكترث بالنتائج المدمرة على الاقتصاد والأخلاق.
المجتمع العالمي الآن في وضع أستطيع أن أقول عنه خطير، وهذا يقودني إلى المسألة الثالثة.....
يتبع
■ فؤاد بلاط