«أوديب» لبيار كورناي:تلك الأقدار التي لا مهرب منها
إبراهيم العريس إبراهيم العريس

«أوديب» لبيار كورناي:تلك الأقدار التي لا مهرب منها

منذ القرن السادس قبل الميلاد والكتّاب مفتونون بحكاية أوديب: عشرات المسرحيات كتبت عن هذه الشخصية، وعشرات الروايات المختلفة رويت عنها. وصل إليها فن المسرح - باكراً - ثم الموسيقى والفن التشكيلي، وصولاً إلى فن السينما الذي لم يفته أن يكتشف باكراً ما تحمله أسطورة هذه الشخصية الاستثنائية من إمكانات.

ولم يكن صدفة أن يتواكب اهتمام فن السينما بأوديب مع اهتمام علم النفس الفرويدي به. وكذلك لم يكن صدفة أن يكتب العالم النفسي الأميركي آرنست جونز نصاً ثاقباً عن العلاقة بين أوديب وهاملت، استناداً إلى فرويد. ذلك أن أوديب يكاد يكون مرآة تعكس المشاعر ومصاعب العيش والمخاوف. رواية متبدلة بتبدل الأزمان. ومن هنا فإن حفيد قدموس هذا، والذي تناولته الأسطورة اليونانية، للمرة الأولى، محولة إياه إلى عمل مسرحي على يد اسخيلوس، بدا دائماً وكأنه «إن لم نجده عليها لاخترعناه» - بحسب تعبير نزار قباني، ولكن في مجال آخر -. وبالنسبة إلى فرويد، يشكل أوديب، الرعب الكامن في أعماق الطفل، حتى من قبل مرحلة وعيه، من أن يوصله هيامه بأمه إلى قتل أبيه. وذلك هو، مهما اختلفت التنويعات والتفسيرات، الموضوع الأساس لهذه الحكاية التي نجدها كذلك في «الأيام والأعمال» لهزيود، ولدى سوفوكليس ويوريبيدس، وكذلك لدى الرومانيين لاحقاً من طريق سينيكا الأصغر.

ولأن لحكاية أوديب كل هذا الحضور، وكل هذه القدرة على الرمز إلى حضور الإنسان في العالم وخوفه، كان من الطبيعي لعصر النهضة الأوروبي أن يعود إلى أوديب، بعد أن غاب هذا، نسبياً، منذ انقضاء العصور الرومانية. وكان من الطبيعي أن تتطابق عودة أوديب مع عودة الفكر الإنساني، الذي كان توارى بعض الشيء منذ انتهاء عصور العقلانية ودخول البشرية في العصور الوسطى التي نُحّيَ فيها الإنسان وحرية إرادته جانباً.
وهكذا، منذ بدايات القرن السادس عشر، ومن طريق الكاتب جيوفاني دي اغويارا، أعيد اكتشاف أوديب، وأعيد تفسيره، بما يتناسب هذه المرة مع استعادة الفكر الإنساني. ولئن كان الكثير من كتاب عصر النهضة في طول أوروبا وعرضها سيهتم بهذه المسرحية ويضفي عليها التفسيرات، يظل اقتباس الفرنسي بيار كورناي هو الأكثر دلالة. ولا نعني بهذا انه الأفضل أو الأقوى. فالحال أن «أوديب» كورناي لا تعتبر، حتى، من بين أقوى أعمال هذا الأخير. فهي لا تضاهي «السيد» مثلاً. غير أن أهمية استخدام كورناي لأسطورة «أوديب» وعصرنتها عبر تقديمها في مسرحية جديدة، ابتداء من عام 1659، تكمن في استخدامه السياسي الآنيّ لها: فالصراع في ذلك الحين كان محتدماً بين الجانسينيين وبين اليسوعيين، في فرنسا وفي طول أوروبا وعرضها، حول مفهوم الحرية الإنسانية. وهو، تقريباً، الحوار نفسه الذي كان دار بين الأشاعرة والمعتزلة في علم الكلام الإسلامي قبل ذلك بقرون، منطلقاً من السؤال الأساس عما إذا كان الإنسان حرّ الإرادة في أفعاله، أم أن ما يفعله مقرّر سلفاً، لا يد له فيه.

في ذلك الحين، كان كورناي بدأ يهتم جدياً بالسياسة، ويخفف من اهتمامه بالمسرح، وكان يعيش ويعمل في حماية وزير المال الإصلاحي فوكيه. وكانت ثمانية أعوام قد مضت لم يكتب فيها أية مسرحية جديدة. وفي تلك الأثناء كان السجال احتد بل عنف من حول مسألتي «الجبر» و «الاختيار» هاتين - في استعارة منا للمصطلحات الكلامية الإسلامية - وكان فوكيه يخوض السجال ضد اليسوعيين وبقوة. ولما كان المسرح منبراً أساسياً للأفكار في ذلك الحين، طلب فوكيه من كورناي أن يسانده، مسرحياً، في نقاشه. وهكذا شمر صاحبنا عن أكمامه وأخذ أسطورة أوديب القديمة بأحداثها التاريخية ولكن بأفكار معاصرة، مؤكداً على ما كان معروفاً من قبل: كون الأسطورة نفسها حمّالة أوجه، ومرآة حقيقية يمكن لكل عصر وفكر أن يجد فيها ضالته. ومن هنا، وللضرورات الفكرية أكثر مما للضرورات المسرحية، أضاف كورناي إلى العمل الأصلي المعروف حكاية حب جديدة.

في الأصل نعرف ان الشكل الأكثر وضوحا للحكاية هو ذاك الذي دونه سوفوكليس في «أوديب ملكا». وهذا الشكل هو الذي استعاره كورناي. فهنا لدينا لايوس، ملك طيبة، الذي كان الإله أبولو قد أنذره بأنه لو أنجب من زوجته جوكاستا ولداً، فإن هذا الولد سوف يقتله عقاباً له على جنايته على بيلوبس. لكن لايوس لم يفزعه ذلك التنبؤ. وأنجب ولداً سرعان ما رمى به في العراء تخلصا منه وهو بعد وليد. لكن راعياً يعمل لدى الملك بيلوبس يعثر على الوليد وينقله إلى هذا الملك الذي يتبناه ويطلق عليه اسم أوديب. وحين صار هذا الأخير شاباً، قيل له صدفة أنه ليس ابن الملك فيتوجه إلى معبد دلفي مستشيراً، لكن العرافة بدلاً من أن تنبئه بأصله تنبأت له بأنه سوف يتزوج أمه ويقتل أباه. أفزعت النبوءة أوديب، وقرر ألا يعود إلى كورنته حيث «أبوه» الملك بيلوبس... وهكذا هام على وجهه حتى وصل طيبة ليجدها تعاني من الوحش الأنثى (السفنكس) المرابطة عند بابها تفتك بكل العاجزين عن حل لغز تطرحه عليهم. وبالطبع يعجز الجميع عن حل اللغز ويفتك الداء بالمدينة. لكن أوديب يتمكن من حل اللغز (أذ يجيب بأن من يمشي صباحاً على أربع، وظهراً على اثنتين ومساء على ثلاث هو الإنسان نفسه) ويجرد بالتالي الوحش الأنثى من قوتها فتنتحر أو يصرعها في صراعه معها بحسب روايات أخرى. أما المكافأة التي يحصل عليها فهي الزواج من جوكاستا، بعد أن ترملت على يديه هو في قتاله زوجها لايوس، وتنجب جوكاستا لأوديب أربعة أبناء هم اتيوكلس وبولينيكس وأنطيغونا وإيسمين، وتحل لعنة جديدة على طيبة، قبل أن ينكشف سر الزواج المحرّم بين أوديب وأمه. فتشنق جوكاستا نفسها ويفقأ أوديب عينيه، نازلاً عن عرش طيبة هائماً برفقة ابنته انطيغونا، ما ينزع اللعنة عن المدينة.

هذا السياق نفسه هو الذي استخدمه كورناي، غير أنه أحدث فيه تبديلاً أساسيا. إذ أضاف إليه - كما أشرنا - حكاية حب تأتي هنا لتبرر النقاشات الحادة عن الحرية الإنسانية -. ومع كورناي تبدأ الحكاية بأوديب وقد أضحى ملك طيبة، فيما خلّف لايوس قبل رحيله، ابنة من جوكاستا هي ديرسيه. وها هو الآن سيد أثينا ثيزيوس يريد الزواج من ديرسيه، غير أن أوديب كان يريد تزويجها من هيمون. وهنا عند هذه اللحظة يحل الطاعون/ اللعنة بالمدينة ويسعى أوديب إلى استشارة القوى الشريرة لمعرفة الذي يحصل، فيظهر له ظل لايوس مخبراً إياه بأن الوباء سيختفي ما أن يراق الدم للتكفير عن جريمة ارتكبت ولا تزال من دون عقاب. وإذ ترغب ديرسيه التي تعتقد حتى الآن أنها ابنة الراحل لايوس الوحيدة، في أن تقدم نفسها قرباناً لإنقاذ المدينة، يتقدم حبيبها ثيزيوس لإنقاذها والحلول مكانها مدعياً أنه هو ابن لايوس. غير أن جوكاستا تكذبه لأنه لو كان حقاً ابن الراحل لكان من شأنه - بحسب العرافين - أن يقتل أباه ويتزوج أمه، وهو ما لم يفعله بالطبع. وعند هذا المفترق يصار إلى اكتشاف الحقيقة، ويروى لنا هنا ما كان يشكل البداية لدى الكلاسيكيين: ولادة أوديب وما جرى له على يد لايوس. وإذ تنكشف هذه الحقيقة، أمام الحضور كما أمام متفرجي المسرحية تنتحر جوكاستا بطعنة خنجر ويفقأ أوديب عينيه.

إن ما فاجأ أهل المسرح حين قدم كورناي عمله هذا للمرة الأولى، كان ذلك التعقيد الذي أضفاه الكاتب على أحداث كان سوفوكليس وغيره قد أوردها بسيطة مباشرة الدلالة. وقال كثيرون، ومن بينهم شيلر الذي لم يبد أبداً أي إعجاب بكورناي، مفضلاً رأسين عليه، أن الكاتب لم يكن في حاجة إلى إضافة قصة حب ديرسيه لثيزيوس، طالما أن قصة الحب هذه بطهرانيتها لا تتلاءم مع مجرى مسرحية تحمل كل هذا القدر من الشر والعنف. غير أن شيلر لم يلتفت هنا إلى أن كورناي إنما صاغ المسرحية كلها لخدمة أهداف سياسية - فكرية. فمن دون قصة الحب ما كان في إمكانه أن يورد كل تلك الحوارات عن الحرية الإنسانية ومسألتي الجبر والاختيار. وهي، على أية حال، حوارات بدت مقحمة ومفهومية الطابع، تبتعد كثيراً عن جزالة حوارات كورناي في أعماله السابقة. ومهما يكن حين كتب كورناي «أوديب» كان في الثالثة والخمسين من عمره يقترب من التقاعد ويرى أن عليه الآن أن يخوض في السياسة أكثر وأكثر. وكان خلف وراءه مجداً شهد كتابته لعشرات المسرحيات التاريخية والمعاصرة، مثل «ميديا» و «الوهم الهزلي» و «السيد» و «سينا» و «موت بومباي» و «بوليوكتس» و «الكذاب». أما بعد «أوديب» فكتب مسرحيات عدة لم يكن منها على مستوى أعماله القديمة سوى «أتيلا» (1667) و «أوتون» (1664) و «بسيكيه» (التي كتبها بالتعاون مع موليير) وبخاصة «تيتوس وبيرينسي».


المصدر: الحياة