«أغنية العصفور الدوري» لمجيد مجيدي قابلوا الفقر بابتسامة
عرض في إطار المسابقة الرسمية لمهرجان دمشق السينمائي السادس عشر، فيلم «أغنية العصفور الدوري» للمخرج الإيراني مجيد مجيدي، والفيلم المنتج هذا العام سبق له أن شارك في عدد من المهرجانات العالمية حيث حاز بطله رضا ناجي على جائزة أفضل ممثل في مهرجان برلين الأخير، كما عرض في مهرجاني كارلوفي فاري وأدنبرة.
يبدو مجيد مجيدي الأكثر انسجاماً مع محرمات السينما الإيرانية، التي استطاعت أن تقدم أعمالاً كبيرة حتى ضمن شروط تحدد الخيارات الدرامية أحياناً، وإلا فما سر هذا الحضور الكبير للأطفال في هذه السينما، لكن مجيدي الذي يعرّف نفسه كمسلم، وهو أكثر صناع الروائع جماهيرية في الوقت نفسه، ينسجم إلى حد بعيد مع هذه الشروط والخطاب الروحي الذي يقارب الديني السائد في أفلامه، يعبر عن إيمان عميق ونزعة صوفية، وتركيز على الأخلاقي في الإنساني.
في «أغنية العصفور الدوري» Song of Sparrows ، يتابع صاحب «أطفال السماء» و«باران» العمل على عوالم الفقراء معطياً دوراً لافتاً كل مرة للأطفال والصغار، كريم (رضا ناجي) الذي يعمل في مزرعة للنعام يفقد عمله بسبب هروب نعامة، يسافر إلى طهران لتصليح سماعة ابنته الصماء هنية التي تعطلت بعد سقوطها في الماء الملوث للخزان، فيما ينشغل ابنه الصغير حسين ورفاقه بتنظيف خزان المياه القديم ليربوا فيه الأسماك الذهبية ويتاجروا بها، هذا العمل الذي يتعامل معه الأب بالغضب مرجعاً أفعال ابنه إلى الشقاوة لا إلى النضج المبكر، أو الطبيعة غير الملوثة للأطفال، الفطرة، بلغة مجيدي. فالطفل حتى لو اتخذت أفعاله طابع اللعب إلا أنه مهتم بمساعدة أهله، وحين يرى كريم ابنه حسين يبيع الزهور على الطريق يضربه ويقول له أنه لا يقصر معهم في شيء. في طهران يعمل كريم بالمصادفة سائق دراجة نارية بالأجرة ينقل الركاب والبضائع، ويظهر أن هذه المهنة سائدة في إيران رغم غرابتها. فيما يجمع الأغراض المستعملة التي ستشكل جبلاً من الكراكيب قرب سور البيت الذي سيقع عليه مسبباً له كسوراً فظيعة، لكن الطفل حسين وأطفال القرية سيعملون في نقل الخضروات ونباتات الزينة على شاحنة أحد الجيران، كما سنشهد حالة من التكافل الاجتماعي بين السكان. يشتري الأطفال الأسماك الذهبية، لكن البرميل التي يحتويها يثقب ولا ينجح الأطفال في إنقاذها وذلك عبر مشهد حركي بارع للمخرج، وصولاً إلى انسفاح الماء والأسماك على الأرض، حين تبلعط السمكات وتقفز، «نتذكر المشهد الأخير في «أطفال السماء» حيث ترقص سمكة ذهبية حول أقدام الطفل الجريحة المغمورة في الماء»، لكن في طريق العودة والأب كريم يتمدد على أرضية الشاحنة برجله المجبّرة، يستمع له الأطفال مغنياً «العالم كذبة». هذا العزاء العرفاني، غالباً ما يكون هو الحلّ في أفلام مجيدي، فهو حين يصور فقراً مدقعاً لا يطوره إلى رغبة بالفضح أو تحميل أحد مسؤولية الحالة المزرية لهؤلاء الناس، رغم أن الثراء يظهر في الأفلام بشكل عابر، ونحن هنا نشاهد مجتمعاً يعيش في ظل حكم ثورة تحررية، لكن يبدو أن الثورة الإسلامية لم تعط المسألة الطبقية أي اهتمام. ومجيدي أمين للواقع الذي يقدمه، لكنه يتطلب من أبطاله أخلاقيات هرقلية، وصبراً فولاذياً وتعاملاً مع الصعاب المعيشية بابتسامة، كما أنه موقن بإرادة عليا تصلح الأمور في النهاية ويمكن الركون إليها. كل ذلك في غلاف من الصورة الشاعرية للمشهد الطبيعي ومن جماليات الصورة الشعرية، مع قدرة على توظيف لعبة الترميز البصري والمشهدي «يأخذ الفيلم اسمه من عصافير الدوري التي تعشش في جدار خزان الماء الذي تم تنظيفه، كما يظهر عصفور لكريم الجريح يحاول الخروج من النوافذ المغلقة للبيت».
لا يقدم مجيدي أعمالاً دعائية، حتى لو ظهرت أعماله متسقة مع خطاب سائد، فعلى العكس، الصورة الواقعية التي يقدمها لبلده النفطي قد تقترب من دعاية سلبية، لكنه من ناحية الخطاب الفكري يطرح رؤية إيمانية أصيلة، فلسفية وكونية، تلامس الأخلاقي ولاتمارس الدعوة.
حاز الممثل رضا ناجي على جائزة أفضل ممثل في مهرجان دمشق السينمائي، وحصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الخاصة.