شجرة المستقبل: لا شرقية ولا غربية..!
يعيش العالم بأسره مخاضاً قاسياً؛ عالم يموت وآخر يولد. بين العالمين، لا تخرج وحوش الظلام السوداء من شاكلة «داعش» محاولةً قتل الوليد في رحمهِ فحسب، بل وتخرج أيضاً أفكار برّاقة شتى تدّعي جدّتها وانتصارها للإنسان، محاولة ترتيب الصراع بغية إعادة إنتاجه..
تبرز بين هذا النوع من الأفكار اثنتان تكملان بعضهما بعضاً رغم تناقضهما الشكلي، الأولى تقول: بأن العالم يدخل نمطاً جديداً من «الحرب الباردة»؛ غرب إمبريالي متوحش، يقابله شرق إمبريالي أيضاً.. هنالك واشنطن ولندن وتوابعهما، وبالمقابل هنالك روسيا والصين وتوابعهما، وما يجري الآن هو إعادة اقتسام للعالم بين ضَوارٍ إمبريالية. أما الثانية، فتقول: بصراع بين الغرب والشرق، ولكنّها تنفي عن الشرق لا الصفة الإمبريالية فحسب بل والصفة الرأسمالية أيضاً! الشرق وفقاً لهذه الفكرة هو الشرق المستضعف التابع، وأهم من ذلك، هو: الشرق النقي من الرأسمالية، فالرأسمالية لم تنجح في الانتشار فيه، كذلك تقول مدرسة ما بعد الاستعمار التي تأتي مكملة ومطورة لمقولة «صراع الحضارات».
إنّ الانقسام السياسي بين غرب وشرق، هو انقسام واضح بيّن لا يقبل جدلاً، رغم ذلك فإنّ هذا الانقسام المحمول على كيانات دول ومحاور متضادة ليس كافياً بذاته للولوج إلى جوهر الصراع الجاري.
القائل: بأن هنالك مركزين امبرياليين متحاربين يدعي انطلاقه من أسس مادية اقتصادية، والحق أنّه يقف على عتبة علم الاقتصاد السياسي، فيصف أشكالاً ومظاهر ولا ينفذ إلى لٌبْ المسألة. الصراع القائم هو بين المركز الإمبريالي الأوحد وأطرافه التي يستغلها ويستعمرها بأدوات الاستعمار الاقتصادي الحديث بعصا الدولار والهيمنة العسكرية، الصراع هو صراع داخل المنظومة الرأسمالية نفسها، المنظومة التي تمركزت عمودياً واتسعت أفقياً لتشمل الأرض حتى آخر بقعة فيها، ولذلك فإنّ الصراع القائم وإن اتخذ شكلاً سياسياً محمولاً على دول ومحاور، إلّا أنه في عمقه تعبير عن أزمة شاملة وخانقة للنموذج الرأسمالي لا في تفاصيله ومعدلات نهبه، بل وفي وجوده.. لن نطيل في معالجة الفكرة الأولى فقد عولجت على صفحات قاسيون مراراً وبأحسن مما قد تعالج هنا.
الفكرة الثانية لا تقل خطراً، بل ربما تزيد. إنّ مستند هذه الفكرة كما يوحي أصحابها، وعلى رأسهم رواد مدرسة الـ«بوست كولونيال»، هو مستند مركب اقتصادي- ثقافي.. ولكنه ثقافي أكثر مما هو اقتصادي، فهم حين يزعمون زعمهم الباطل بأن العالم غير الغربي ليس رأسمالياً فإنما يردون ذلك- حصرياً- إلى جوهر «ثقافي» يخص ذلك العالم، جوهراً شرقياً معادياً للرأسمالية ولنظامها السياسي «الديمقراطي الشامل التوافقي» كما يسمونه. ولكنهم لا يكفون يسبغون على حالة الرفض الافتراضية هذه صفاتاً وأحكاماً قيمية إيجابية، فهذا الرفض– ذو الأساس الثقافي الحضاري- هو دليل نقاء. والشرق برأيهم هو بجملته شرق مستضعف subaltern، ولذا فإن عليه التركيز على هويته الخاصة بعيداً عن الهوية الغربية المعلبة، عليه أن ينبذ الأفكار الغربية جملة وتفصيلاً بما في ذلك الأفكار الطبقية والماركسية.. يبدو الطرح «خيّراً ومتعاطفاً»، خاصة وأن أولئك الذين «يناضلون» لنشره «يساريون»، ورثة الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية الأوروبية، ورثة الأممية الثانية والرابعة، ورثة كاوتسكي وتروتسكي. والأهم من ذلك أنهم ورثة ستراوس وفوكو ورولان بارت وغيرهم ممن اشتغلوا على نسف الحداثة ونسف عالمية الأفكار، والذين مهدوا لهنتغتون الطريق ليلقي بدرّته السامة «صراع الحضارات».
إنّ الافتراض بأن الشرق بجملته مستضعف، يعني استبعاد الانقسام الطبقي الداخلي لهذا الشرق، يعني تبرئة البرجوازيات التابعة والمرتبطة بالمركز الإمبريالي من جرائمها بحق الشرق، ويعني أيضاً تبرئة الغرب نفسه من معظم هذه الجرائم في نهاية المطاف.. فالغرب «حاول نشر الليبرالية السياسية وفشل» كما يقول راناجيت غوها أحد رواد «نظرية ما بعد الاستعمار»، لا لأن ليبراليته تترجم في الشرق-بشكل طبيعي وإلزامي- ديكتاتوريات لبرجوازيات تابعة، بل لأن الشرق «النقي» وثقافته تتعارضان مع الرأسمالية وقيمها.
إنّ الافتراض المحمول على عبارات رنانة حول استضعاف الغرب للشرق واستغلاله، إنما تعيد إنتاج القول بأن الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان، وكذلك القول بـ«غرب كافر» و«شرق مؤمن»، بل وتسعى سعياً محموماً لمنع اتحاد النضال الأممي للطبقة العاملة، فلما كان الشرق ما يصفونه به، فإن الغرب هو مقابل ذلك: الغرب شر مطلق لا حلفاء فيه، الكل أعداء.. والأهم أنّ لا أزمة يعيشها الغرب من داخله، بل هي أزمته مع الشرق، والحق أنها أزمة الشرق والغرب معاً، أزمة البشرية بأسرها في صراعها الوجودي مع الرأسمالية.
إنّ وجود تمايزات ثقافية واقتصادية بين الشرق والغرب، هو أمر لا يمكن إنكاره البتة، ولكن حدود وهوامش وأسباب وآفاق هذه الاختلافات هي مجال لجدل واسع.. فما تبقى في الشرق من البنية الفوقية للتشكيلات ما قبل الرأسمالية حتى وإن كان مشاعياً، فإنّه ليس تقدمياً بذاته، وإنّه ليس الصفة التي تعطي الشرق تفوقاً أخلاقياً ما.. إنّ ما تبقى من بنية فوقية سابقة يكتسب صفته التقدمية فقط في حال استثماره في الصراع مع الرأسمالية، وهذا لا يعني أنّ القضاء على الرأسمالية سيعيد «نقاءً» ما سابقاً.. بل سينفي السابق كلّه مبقياً منه جوانبه الإيجابية، ومحملاً إياه جوهراً جديداً..
إنّ «تشجيع استقلالية الثقافات المحلية» هو عولمة رأس المال ذاتها، فقطع الثقافات المحلية عن سياقها الإنساني العام لن يفعل في النهاية سوى أنه سيعيد تدجين المحليات وتعليبها بوصفها منتجات «حضارية- سياحية» و«انعزالية»، ليفقدها بذلك عناصرها الإنسانية الجامعة، عناصرها التقدمية.
إنّ عدم قدرة المركز الإمبريالي العالمي على تحميل الصراع بينه وبين أطرافه التي بدأت تستقل عنه نسبياً صفة صراع أيديولوجي- فليس ثمة شيوعية ورأسمالية تتحاربان- يدفعه إلى اختراع أساس أيديولوجي آخر هو الشرق في مقابل الغرب، ولماذا؟ لأنه يلمح شبح الصراع السابق بين الشيوعية والرأسمالية ضمن الصراع الحالي، لا يلمحه متمثلاً بالروس أو بالصينيين، بل يلمحه في جوهر الصراع ذاته.. إنّه يلمحه على عتبة المستقبل، لذلك يستحضر أرواح الماضي السحيق، خيّرها وشريرها، ليضعها في واجهة الحدث..
إنّ الحبل الذي ينبغي للشعوب المقهورة في الشرق والغرب الاعتصام به، هو حبل المستقبل! صحيح أن الشعوب تناضل لتغيير واقعها، ولكن أي واقع تريد محل واقعها الراهن؟ إنها تريد واقعاً مستقبلياً لم تطأه قدم بعد، له ملامح وإشارات من الماضي والحاضر، ولكنّه أرض جديدة بالكامل.. المستقبل هو بالضبط ما تخشاه الرأسمالية غرباً وشرقاً، وهو ما تتكئ عليه الشعوب غرباً وشرقاً.. أيضاً.