قفص داخل قفص
أثناء إحدى المناوبات الأخيرة في المشفى، كنت أذرع غرفتي ذهاباً وإياباً وفي رأسي عشرات الهواجس تضجُّ، فوضى هائلة وضجر، والأهم هو إحساسٌ بالنقص والأذى كعاشق خسر في الحب، توقفت فجأةً، قلت لنفسي:
أجل، لكم أشبهه في قفصه، ذلك الفهد الضامر الجميل، رأيته منذ فترة قريبة في حديقة حيوان في دمشق شارداً يزرع القفص جيئةً وذهاباً، لا يلتفت لأي من المهرجين أمامه أو لما يلقونه للفت انتباهه من مكسرات ورقائق «شيبس» وسواها، يسير بضع خطوات مسافة مترين ونصف تقريباً ليعكس اتجاهه في قفصه الضيق (كالعادة في سورية)، الحديقة كلها حالةٌ من الاختناق، ومن ذلك وجود ست لبؤات في مساحة تقرب ستة أو سبعة أمتار مربعة، أيعقل هذا؟!، أنا لا أستغرب من باب مناصرة الحيوان أو سواه ولكن ببساطة أيعقل هذا؟! وقتها كان الفهد يسير رشيقاً وأضلاعه تبرز من تحت فروه، عيناه الدامعتان تنظران للبعيد، إلى ما وراء هذه الجدران البليدة، لا يفكر في الانتقام أو التهام أحد، بل فيما جاء منه أو ما كان من الممكن أن يكون. سخرت من نفسي بسرعة، أيعقل هذا الغرور، أن تشبه نفسك بفهد أو نمر أو أسد يشيخ وراء الحديد، فصعدت مرارةٌ مألوفةٌ، لا، الأمر أبسط، فأنا أشبه نفسي بهذا الكائن المطعون في كبريائه، أحس أني مثله، أسيرٌ ويائس، لا أرغب في اصطياد أحد، لكني أحلم بحقل أجري فيه حراً، لأموت فيه على مهل وأنا أداعب أنثاي. لا أريد حروباً أو قضايا كبيرة أدافع عنها، كل ما أحلم به هو أن أكون برياً، بعيداً عن كل هذا الكذب والأقنعة ودوامة إعادة إنتاج العنف والسلطة، أجل، كنا حيوانين مطعونين في كبريائهما، قفصٌ داخل قفص.
منذ سنوات قليلة (وبطبيعة الحال مازلت شاباً في العشرينات)، كنت أكتب بحرارة، وفي رأسي سيلٌ من الأفكار والأحلام، هواجس تفيض عن قلبي وتدفعني للسير والسؤال عمن يملك روحاً زائدة ليحملها معي، هواجس بالسياسة والفكر والأدب والحب وثوراتٌ من شتى الألوان وقلبٌ صغيٌر يبتلع العالم، أو يصفعه ليتوقف قليلاً ويرى، عيناي شرستان وعاطفيتان، وقتها كنت عاشقاً برياً، وما جرى ببساطة أني فقدت الثقة بالكثير من هذي الأحلام والمشاريع القديمة الواهنة وفي قدرتها على الحياة مع حصار للمشاريع الجديدة أو عدم نضج المجتمع لتشكيلها، فيبقى الحراك في مناطق ضيقة ومكبلة، فالأمر لا علاقة مباشرة له باليأس أو الإحباط كما يمكن أن يتبادر للذهن، بل بالواقع نفسه بكل ما فيه من أمراض وقسوة وأسياد وحدائق حيوان، الحيوانات فيها أكثر إنسانيةً وصدقاً ونبلاً من أصحابها.
أعتقد أن هذا ما جعلني أتوقف عن الرسم رغم احتفاظي بحامل اللوحة في زاوية الغرفة وعليه ورقة فيها مشروع لوحة بدأته منذ زمن طويل، لأذكر نفسي أن الأمر يحتاج للحظة أخرج ألواني فيها لأبدأ جنوني وغرقي الجميل، كما أصبح استمتاعي بالموسيقى أقل رغم أني من المهووسين بها، ولعل ما سبق جعلني أكتب الشعر بكثافة أقل وبألم أكبر، والأهم غيّر من توجهي بشكل كبير مع محبتي لمراحلي السابقة، وهذا ما بدأ بتحويلي إلى عاشق مرهق نسبياً، رغم أن الحب، هو الوحيد الذي بقي دافئاً ونابضاً وقابلاً للحياة ولعله حقيقةً الشيء الوحيد الذي انتشلني من فترات يأس خانقة،
كل ما سبق يدفعني للسير في غرفتي حائراً ضجراً مهاناً، لا أعرف ما أريد، حيواناً بريّاً بكبرياء ينزف، وأضلع خافتة الصدى، وحنين إلى شيء ما يصعب تحديده، وروح تبحث عن الجمال في تفاصيل الحياة لتعدل من مرارتها اليومية في المواصلات وما فيها من تشرد وذل والمشفى _ الثكنة، والأطباء وعقلية تدمير الأدنى من الأعلى، والمجتمع المثقل بالقمع بعلاقاته المشوهة التي تجعل الحركة أمراً صعباً، لا تتجاوز أحياناً السير في غرفة كما يفعل العديد من أبناء جيلي بقلب يقاوم التدجين مثل ذلك النمر في قصة زكريا تامر وكبرياء جريح تقاوم نهايته.