الشّاعر عابد إسماعيل: لا شيء ينقذ عالمنا سوى الفن
تتعدد اهتمامات عابد إسماعيل فهو شاعر ومترجم وناقد وإعلامي. وبين كلّ هذه الأشياء يبقى الشعر عمله الأساسي فهو أصدر خمس مجموعات منها «ساعة رمل»،«لمع سراب»، إضافة إلى العديد من الترجمات الشعرية المختلفة وحضوره الدائم كمتابع للحركة الشعرية العربية. قصيدته مزيج من الأحلام والمرئيات التي توائم بين ما هو داخلي وخارجي.
• ما الذي دفعك إلى أن تختم مجموعتك الأخيرة «لمع سراب» بالقول إن الشعر سراب ووهم؟ ما جدوى الشعر بالنسبة لك إذاً؟
وما الخطأ في أن يكون الشعر سراباً لا طائل منه! أرى أن رؤيا القصيدة يجب أن تختلف اختلافاً جذرياً عن رؤيا النص الفلسفي أو الأخلاقي أو السياسي، باعتبار أن هذا الأخير يسعى دائماً إلى تلقيننا درساً في السلوك، ويدفعنا بعناد للإيمان بحقيقة ما. في الشعر يختلف الأمر كثيراً. إنّ هامش اللعب أكبر وأوسع. دعنا نلعب، ونحلم في القصيدة، بعيداً عن كلّ معيار مسبق. يجب أن تكون القصيدة نتاج ذاتها، ولا تشير إلاّ إلى نفسها. بل يجب أن لا تقول إلاّ صمتها. وحسب رأيي، لا شيء ينقذ عالمنا المتجهّم، العابس والكئيب سوى الفنّ. الفن بوصفه لعباً مطلقاً، لا غاية ترجى منه سوى المتعة الجمالية الخالصة. حتى الأفكار والمقولات الكبرى يمكن أن تتحوّل إلى هباء مجازي يطير ويتناثر في سماء القصيدة. في ديواني (لمع سراب)، حاولت حقاً أن أعيد الاعتبار للوهم، للبرق، وللصّدى. حاولت أن أمجّد «السراب» بوصفه شكلاً من أشكال الحرية.
• في مجموعتك اهتمام لافت بتوزيع الأشطار وتقطيعها بما يتناسب والحالة … هل هذا الخيار ناجم عن تأثر بأنماط غربية؟
أنا أكتب قصيدة النثر التي يمكن أن تقترح لنفسها أشكالاً وصيغاً كثيرة ومختلفة. يمكنها مثلاً أن تمتدّ عمودياً على الصفحة وتأخذ شكل القصيدة الموزونة والمقفّاة، (الكلاسيكية والتفعيلوية، والشعر الحرّ)، (free verse) و يمكن أن تمتدّ أفقياً كمقطع نثري (prose poem) هارب من رواية أو قصة قصيرة. التوزيع والتقطيع والمونتاج، حسب رأيي، استراتيجيات مزاجية، تفرضها طبيعة الفكرة وكيفية نموها وتطورها. لا يحدّد الشاعر مسبقاً، في قصيدة النثر خاصّة، شكل التعبير أو نمطه، فهذا منوط بحركية وجدانية وشعورية معقدة. وأحياناً تفرضه اللغة ذاتها، التي تعرف كيف تخون مؤلفها. آخر شيء يتأثر به الشاعر هو الشكل أو نمط الكتابة. فالشكل، كنظام العروض أو السلّم الموسيقي، يمكن أن يتقنه الجميع، ولكن قلة فقط قادرة على ابتكار نصّ يتجاوز شكله، ويتخطّى مسلّمات البنية والتقطيع والهندسة الأسلوبية. الرّهان يكمن دوماً في تلك المقدرة على كتابة نصّ تغيب فيه المسافة بين الشكل والمضمون، ويولد ككتلة واحدة، مثل سيمفونية موسيقية تمثل كل ضربة فيها جزءاً لا يتجزأ من معناها الكلّي.
• يأخذ الآخرون عليك بأنك شاعر ميتافيزيقي، في وقت ينحى فيه الشعر إلى الأرضنة.. هل لديك موقف نقدي حيال ذلك؟
ثمة إشكال كبير في فهم هذا المصطلح «ميتافيزيقيا». وغالباً ما نقرنه بجانب واحد وحيد، هو الماوراء، أو الغيب، أو عالم المثل الأفلاطوني. وهذا غير صحيح. هل تعلم مثلاً أن المفكر الفرنسي جاك دريدا اعتبر اللغة ذاتها، التي نتحدّث ونفكر ونكتب بها، نتاجاً للميتافيزيقيا؟ فكلّ كتابة تتوخى معنىً ما هي ممارسة ميتافيزيقية بالضرورة. بهذا المعنى، يصبح تاريخ الشعر برمته، منذ هوميروس وحتى وديع سعادة، بمثابة استعادة أزلية لفكرة المعنى، وبالتالي البحث عن أسرار الماوراء. فكيف يمكن للشاعر أن يهرب من الميتافيزيقا إذا كانت اللغة ذاتها (وسيلتنا الوحيدة للتعبير) ميتافيزيقية؟ ناهيك أنّ القصيدة- الصوت، أو القصيدة –الشيء، أي القصيدة التي تقول ما ترى، دون زيادة أو نقصان، غير موجودة. لأن اللغة أيضاً هي مهارة تجريد وتمثيل وتجاوز. إن نظرية المحاكاة لدى أرسطو، مثلاً، لم تفترض يوماً النقل الحرفي للواقع، بل إعادة كتابته وتمثيله من جديد (representation)، وفي هذه الإعادة، ثمة دوماً وقوع في براثن الميتافيزيقيا. ومن ثم كيف يمكن الفصل بين الجسد (فيزيقيا) والعقل (ميتافيزيقيا)؟ إذا كنت تمشي على رصيف، فأنت أكثر من مجرد ساقين ويدين ورأس. أنت كائن تحلم وتنسى وتغضب وتفكّر أيضاً. ورهان الشعر هو القبض على الإنسان ككلية متكاملة، وليس قلب الثنائية الهيغيلية رأساً على عقب. هذا فصل اختزالي تبسيطي لا معنى له، حسب رأيي.
• بالغ شعراء جيل جيلك- جيل التسعينات- في العناية باللغة كشكل، إلى درجة ظهرت نتاجات كثيرة، اللغة فيها من أجل اللغة، ما جعلها عسيرة على التواصل والتلقي؟ ألا تعتقد أن هناك ضرورة لإنهاء ذلك التكلّف، خاصة تحت إلحاح متطلبات الحياة الجديدة؟
لا يمكن دائماً اعتبار العناية باللغة شكلاً من أشكال التكلّف أو الزخرفة أو التجريد. شاعر مثل سليم بركات، مثلاً، يعرف كي يروض اللغة، ويركب موجة البلاغة العالية، ويظلّ في الوقت ذاته شاعراً حسياً كبيراً، لا يضحّي بتاريخانية القصيدة، مكاناً وزماناً، بل يكتب نصاً مرئياً ملموساً يستلهم الطير والنبات والجبال والأنهار والأشجار والإنسان، كما في رائعته «ديلانا وديرام» من كتاب (الكراكي)، عام 1981. القصيدة لا تطير بجناح واحد. لا اللغة وحدها تكفي، ولا التجربة أو ما نسمّيه «الحياة». الحياة مفردة غامضة ملتبسة نردّدها في كلّ مناسبة، دون أن ندري رمزيتها العميقة، وكيفية استثمارها لغوياً. أنا ممن يرون أننا، كبشر، نتكلّم أكثر مما نعيش. بمعنى أننا عبيد الاستعارات والقواميس الرموز، دائماً. عبيد الكلام، نحن. حياتنا، في هذا الشرق المقهور، المكبوت، هي حياة مؤجّلة دائماً. مازلنا نطرد الجسد، ونحجّبه، ونكفّنه ونقصيه. فكيف يتناول شعرنا منطقة محرمة، مجهولة، وآثمة، دون الوقوع في الطلسمية والتجريد. كل كتابة عن الجسد طهرانية في جوهرها، وتنطلق من مخيلة مكبوتة ومثالية. المرأة في كتاباتنا تتجلّى كموضوع للذة فحسب. أعني أنها لا تتجلى كمعطى جمالي رفيع. قد أتفق معك أن شعر التسعينات، وقبله الثمانينات والسبعينات، وربما الستينات، يفتقد لوضوح الرؤيا، ويعاني من التنميط والفبركة والتكلّف، بسبب القيود الاجتماعية والدينية والسياسية التي تكبل العقل العربي في الأساس. لكنّ اللغة هي دفّة الخلاص الوحيدة. هي بيتنا الوحيد كما يقول هيدغر. ومن دونها نتشرّد، ونعرى، ونصبح يتامى، بلا وطن. الشاعر يبحث عن وطنه في لغته، وهذا يتجلّى في نقش اسمه أو توقيعه على نصّ ما. مهما أنكرنا، نحن ككتاب، ترانا نبحث في نهاية اللعبة (الحياة)، عن أثر لغوي يحمينا من الانقراض والنسيان. نريد أن نقهر الموت باللغة، وهذا وهم جميل.
• قمت بترجمة جديدة لقصيدة «أغنية نفسي» للشاعر الأمريكي وولت ويتمان، وقد أظهرت تلك الترجمة فرقاً شاسعاً بينها وبين الترجمة القديمة التي قام بها سعدي يوسف. ألا يقودنا هذا إلى التساؤل عن ضرورة إعادة النظر في الترجمات القديمة السابقة؟
الترجمة هي شكل رفيع من أشكال تأويل النص الأصلي، وتختلف باختلاف ذائقة المترجم وموهبته ودرجة إتقانه للغة. حين ذهبت إلى الولايات المتحدة لإكمال دراستي، لم أكن قد اكتشفت وولت ويتمان بعد، إلا من خلال الترجمات المتفرقة هنا وهناك. عشتُ لأكثر من ست سنوات في المدينة التي عاش وتربى فيها، وهي مدينة نيويورك، وخبرتُ الشوارع التي تعود ويتمان التسكّع فيها، والموانئ المنتشرة على طول نهر هدسون، التي اعتاد الذهاب إليها، بل كنت أعبر حديقة وولت ويتمان في مدينة بروكلين مرّتين يومياً، ذهاباً وإياباً، في طريقي إلى جامعتي (NYU) في مدينة مانهاتن. واكتشفت عوالم ويتمان الحسّية، شيئاً فشيئاً، وبدأت أقرأ شعره في ضوء هذه المعايشة اليومية. وبعد حصولي على شهادة الدكتوراه في الشعر الأمريكي الحديث، وعودتي إلى سورية، بدأتُ أدرّس ويتمان لطلابي في السنة الرابعة في جامعة دمشق، وركّزت على قصيدة (أغنية نفسي) كونها تمثل النواة المركزية لكتاب ويتمان الوحيد (أوراق العشب)، الذي أمضى الشاعر حياته كلّها ينقّح فيه، ويضيف إليه، ويحذف منه، حتى أننا نحصي تسع طبعات مختلفة منه بين عامي 1855، وهو تاريخ ظهور الطبعة الأولى، و 1892، تاريخ ظهور الطبعة الأخيرة، التي عرفت بطبعة فراش الموت. شرحت الأسباب التي دفعتني لترجمة هذه القصيدة في مقدمة كتابي، وقلت إنّ الترجمات التي قرأتها لويتمان لا ترتقي البتة إلى مستوى النص الأصلي، فهي إمّا ترجمة بتصرف كبير، أو محاولة لفرض صوت المترجم وأسلوبه على النص الأصلي، وفي كلتا الحالتين نحن أمام ترجمة غير مثالية، وناقصة، مبنى ومعنىً. أحترم كثيراً الشاعر الكبير سعدي يوسف، وكتبتُ عنه نقدياً في مناسبتين مختلفتين، وأعتقد أنه قدّم الكثير للمكتبة العربية كمترجم، ولكن أظن أنه يحق للقارئ العربي أن يطّلع على أكثر من مقاربة أو ترجمة للكتاب أو النص نفسه، ويختار، في نهاية المطاف، هذه أو تلك، وربما الاثنتين معاً.