فتنة الانتحار تُطرز «مرايا العابرات في المنام»
وحده الانتحار يشكل مضمون المجموعة الشعرية التي أصدرتها الشاعرة جمانة حداد تحت عنوان «مرايا العابرات في المنام» عن دار النهار البيروتية، فبعد أن أصدرت كتاب «سيجيء الموت وستكون له عيناك/ مئة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين»، تقدم في هذه المجموعة اثنتي عشرة شاعرة انتحرن بطرق مختلفة:(تحت عجلات القطار، قطع شرايين اليد، القفز من مكان مرتفع...إلخ).
تدخل إلى حياتهن اليومية، تتقمص شخصيتهن،تتكلم وتكتب عنهن، تعيش من خلال النص اثنتي عشرة حالة، إنها تكتب مجموعة جريئة، عنيفة، صادمة، قوية، تحتفي بالانتحار من خلال نص شعري بُنيَّ على حبكة فنية تجعلك تائهاً في مضمار اللذة والدهشة والشوق لتجربة الموت، تقدم مجموعة غريبة من خلال لعبها على المعاني ، وكما تقول المصرية فاطمة ناعوت: «قدرة على التأمل العميق والتفتيش عن الشعر في مكامنه الخبيئة في الوجود،وموهبة سَوْس اللغة والحفر الموغل داخل أسرارها».
عندما تبدأ بقراءة المجموعة ستشاهد أن الشاعرة اختارت لكل بطلة بورتريه خاص بها (كملصق دعائي لفيلم، قصاصة من جريدة، عمل تجهيزي) تحته تماماً شذرة ما من نص شعري أو روائي، لا يهم ذلك مادام يخدم فكرة النص الموجه لأشخاص معينين، بعدها تبدأ لعبة التوغل والغوص في كلمات النص الكابوسي العنيف، في فتنة التناسي الذي يتحدث عن الشاعرة البرتغالية إسبانكا (انتحرت برمي نفسها تحت عجلات القطار).. كتبت في أحد المقاطع (ليس مصادفة أن أكون اخترت الموت تحت عجلات القطار،هو العضو المستحيل الذي اشتهيه ولم استطع الحصول عليه(...)ارتمائي تحت عجلاته دعوة مباشرة إلى اغتصابي) هذا ما أخبرت إسبانكا جمانة به، جمانة التي ما فتئت تنفي التعريف الساذج للانتحار (بأنه ناتج عن حالة اكتئاب ما...) إلى ما هنالك من الكلمات التي تحاول أن تبعثرها، ليحل مكانها التجربة والشوق.
بعد الانتهاء من كتابة النصوص تبدأ بتفسير الانتحار من خلال ثالوث الدين والعلم والأدب، فالدين فسر الموت تحت عجلات القطار بأنه (في البدء خلق الله الشاعرة، وصارت الشاعرة سَفَراً، وعجلاتٍ صار السَفَّر./ قال الله: لتمت الشاعرة دهساً تحت العجلات، فماتت دهساً تحت العجلات الشاعرة./ ورأى الله ذلك أنه حسن).
تجرد جمانة كل نص من مضمونه لتقوم بصياغته من جديد وتستخدمه في خدمة الشعر، ولا تحاول ترك شيء دون أن تسيّره لخدمة نصها.
لسان حال الشاعرات يقول(أنا الذي اخترت كل شيء في حياتي، وأريد أن أختار موتي). وساعدتهم جمانة بكتابة النصوص عنهم، فقصائد هذا الديوان لا تحتوي أية ترجمات لأشعار المنتحرات، ولا على أية اقتباسات منها، جل ما تفعله الشاعرة أنها تسلس القياد لتجاربهن لكي تتماهى معها، وكي تخترع شعراً لهن، ليس هو إلا شعرها نفسه، إنها «قصائدها الشخصية من أجلهن، بل من أجل الشعر».
حين تبدأ بقراءة المجموعة ستقرأ هذا التحذير«حلٌّ من اثنين:إما أن تهرب،إما أن تدجن موتك./لا يقرأ هذا الكتاب إلا بالتدجين». وحين تقرر أن تقرأه ستقيم داخله وعندما تخرج منه، ستزورك أفكار غريبة قد يكون من بينها الانتحار...!