نبوءات ونوس (2 من2)
نتابع في هذا القسم من المقال ما بدأناه في القسم الأول من قراءة سعد الله ونوس للواقع الاقتصادي الاجتماعي.. لا سيما في «ملحمة السراب»..
تصيب لوثة الاستهلاك سكان القرية وتضج بنمط حياة جديد لم يعرفوه مسبقا. ويلعب الخادم وسيده عبود بأحجار هيمنتهما المفتعلة فيبيعون الإنسان ويسوقون للجنس الرخيص «كريمة وزهية اللتين دخلتا اللعبة أمام إغراء الحياة الرغيدة».. والدين الرخيص الذي بنى لأجله عبود الغاوي جامعا ليصيب عصفورين بحجر واحد.. أولا: اكتسب مصداقية ما أمام الأهالي ... وثانيا «سيكون هذا الجامع حاضنة تفرخ القتل والتعصب والظلام»، كما قال عبود لسيده الخادم حين خاف الأخير من أن يكون للجامع تأثير جمع الصفوف ضد مشاريعهما ولكن عبود أدرك درجة الخواء الروحي والإفلاس الديني الذي وصل بسكان الضيعة إلى الحضيض إذ يقول «لن يدخل الجامع إلا رجال يبتغون الدنيا دون الآخرة ...رجال أفسدت إيمانهم الأطماع والشهوات». و لم يقتصر هذا الغزو السلعي على الناس وأجسادهم بل انتقل ليفسد تراثهم وانمحت صورة شاعر القرية «ياسين» وأخفت أغانيه الرقراقة أصوات النشاز المتقن المنبعثة من صناديق المال المتخمة بالطمع وتركته حبيس الفقر والذل حتى اضطر أن يبيع ابنته للشيطان أن يقبض إنسانيتها ضميرا يؤنبه غير أن قوانين السوق هي البيع والشراء والربح وليس موالاً يغنى فيطرب.. وعلى كومة الدمار هذه يتسلق النبات الطفيلي يتسلق أديب ابن الناطور وأمثاله من محدثي النعمة الذين دخلوا اللعبة وأتقنوها وأصبحوا بين يدي الخادم الإله.. وفرضوا -باستخدام التغيرات القيمية الحاصلة- مكانتهم ضمن مجتمعهم مسوقين للرأسمالي الغريب أولا ومشاركيه في فتات أحلام أبناء ضيعتهم.
وفي غمرة الطوفان الهائل وقف القلائل الذين لم تمسح إرادتهم مكنة العملة المفرخة أينما كانت.. وبدأ البعض يبحث عن حلول.. سار بعضهم في الطريق الغيبي كفضة زوجة ياسين الشاعر وعشيقة عبد الرحمن الدرويش, تزلزلها الانقلابات الهائلة وتخنقها أطماعه الذاتية خاصة وقد وجدت عشيقها يتخلى عن أحلامهما بعد دارت برأسه خمرة المال المارق على طاولات الروليت فلبست مسوحها البيضاء واختارت الغيب صديقا لتداري عوزها الروحي والمادي. ولكن الوعي الفطري السليم الذي تمثله فاطمة زوجة يوسف لا تسكّنه هذه الغيبيات لم تقنعه بالاستسلام والاستكانة فاختار المضي إلى الجانب الآخر ململما شتاته ومرتبطا بالمثقف العضوي بسام الذي ما انفك يعادي الغاوي ومشاريعه كريهة الرائحة. ومضى عبود بعد أن سوق الضيعة وجدد دورة رأسماله قائمة على الدماء والفوضى ... وتنبأت الزرقاء قالت: «أبصر الناس يتذابحون.. والدم يشخب .. والأشياء و النفايات تنزل كالأمطار والثعبان يبصق فئرانا تملأ الحقول المتروكة والبيوت المهجورة... أبصر نفرا من أهلنا مع الغرباء يتحالفون ويعلون ... والفقراء من قريتي أبصرهم لا يجدون سوى السراب.. سراب براق ملون وقاتل»، غير أن نبوءتها كلفتها حياتها كأي مفكر في أرضنا الصعبة نرفض أن نصدقه إما ننفيه إلى سجن معتم الزوايا و إما إلى قبر مظلم الرائحة . غير أن الزرقاء لم تمت قبل أن تخبرنا نبوءتها الأخيرة «لو أنكم لم تستعجلوا موتها لكان ممكنا أن تبصر في البعيد شمسا تشرق بعد انقشاع الليل الطويل الطويل...»، لتتركنا بجرعة أخيرة من الأمل ...
فاطمة: رحلت الزرقاء
بسام : قتلوها كما كانت الأقوام المتوحشة تقتل أنبياءها
يتعانقان وعلى نشيجهما يختفي المشهد ببطء شديد..
والآن والحبل يضيق حول رقبة رأس المال المعولم و ترتفع حشرجات موته.. هل سنستسلم لبراثن اعتدائه.. هل سنسكت أمام طغيانه ونباح أعوانه الذين ينهشون لحمنا في الداخل؟ حانت الآن ساعة قيامتنا تلك الساعة التي سندك فيها حصونه و نستعيد كرامتنا و أحلامنا...