إخلاء السبيل...
إخلاء السبيل هو إطلاق سراح المدعى عليه أياً كان الجرم المرتكب وفي جميع أدوار التحقيق والمحاكمة، وهذه الميزة لا تشمل المدعى عليه فقط، بل المتهم والظنين، فهذا ما نصت عليه المادة 120 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
وطبعاً، وضع القانون شروطاً عديدة لتخلية السبيل تتعلق بألية تقديم طلب الإخلاء والمرجع المختص بالنظر بالطلب والكفالة واستئناف القرار الصارد عن الجهة الناظرة بطلب إخلاء السبيل.
ومنح القانون للمرجع الناظر بطلب إخلاء السبيل – سواء كان قاضي التحقيق أو قاضي الإحالة أو غيرهم - سلطة تقديرية واسعة للبت بالطلب.
وبالرجوع إلى نصوص القانون والاجتهادات القضائية والمراجع القانونية فيما يتعلق بموضوع إخلاء السبيل نجد نوعاً من الغموض، بحيث من الصعب أن نجد ضوابط قانونية يخضع لها قرار البت بإخلاء السبيل، سواء كان سلباً أو إيجاباً، وهذا يعود لتقصير القانون والمراجع القضائية ذات الشأن في رسم ضوابط يعتمد عليها لتحديد مصير طلب إخلاء السبيل، وتركه خاضعاً بشكل كلي لسلطة القاضي الناظر بالطلب. ولا بد لنا من الوقوف مطولاً لقرارات قضاة التحقيق والإحالة الصادرة في محاكمنا، حيث تواجه العدالة في قطرنا فيما يتعلق بهذا الموضوع عدة مشكلات يمكن إجمالها، على سبيل التعداد لا الحصر، بما يلي :
- القرارات المتناقضة الصادرة عن قضاة التحقيق والإحالة فيما يتعلق بقرار رفض أو قبول طلب إخلاء السبيل، فنجد جرماً مرتكباً من قبل أحدهم يوافق على طلب إخلاء سبيله، وبالمقابل نجد شخصاً آخر مرتكباً الجرم نفسه من حيث الوصف والملابسات ويُرفض طلب إخلاء سبيله، مما يجعلنا، محامين ومواطنين، نضع العديد من نقاط الاستفهام.
- الأمر الثاني يتمثل بعدد قضاة التحقيق والإحالة في مدينة دمشق التي يزيد عدد سكانها عن الخمسة ملايين نسمة، ففي القصر العدلي في دمشق يوجد فقط ثمانية قضاة تحقيق، وقاضيا إحالة! ومن المعلوم أنه في السنوات الأخيرة ارتفعت نسبة الجريمة على اختلاف أنواعها في القطر، ابتداءً من جرائم القتل والاغتصاب والمخدرات، وصولاً إلى الجرائم الواقعة على الأموال من سرقة ورشوة واختلاس ونصب واحتيال، ناهيك عن حوادث المرور والتسول... كل هذا يفرض تباعاً زيادة عدد قضاة التحقيق والإحالة، فمن غير المعقول أن ينظر قاضي التحقيق في اليوم الواحد في أكثر من ثلاثين ضبط محول إليه من الأقسام وأفرع الأمن، وهذا الرقم هو متوسط ما يعرض على قاضي التحقيق الواحد في اليوم، مع التذكير أن قاضي التحقيق يجب عليه أولاً قراءة الضبط بدقة واستجواب الموقوف وإصدار القرار المناسب بحقه والبت بطلبات إخلاء السبيل، ولا ننسى أن الموقوفين على اختلاف أجرامهم يجتمعون في نظارة القصر العدلي، وهذا من الصعب أن يتحقق قبل الساعة العاشرة أو الحادية عشر ظهراً، فماذا يتبقى من الدوام الرسمي للنظر بكل هذه الضبوط والطلبات؟
- وتبعاً للضغط الكبير الواقع على قضاة التحقيق والإحالة، فإن ذلك يجعلهم يقعون في أخطاء قانونية كبيرة، وعلى رأسها عدم قدرتهم على النظر بشكل موضوعي بطلبات إخلاء السبيل، حيث يتطلب البت بهذه الطلبات الرجوع إلى إضبارة الموقوف والنظر بدقة بوضعه، مع الأخذ بعين الاعتبار ملابسات الجرم وأقواله ومدة التوقيف، وهذا أمر من الصعب تحقيقه في خضم هذا الضغط الكبير، مما يستتبع غالبا رفض الطلب بشكل عشوائي دون مبرر قانوني يذكر، وهذا يشكل مخالفة واضحة لنص المادة 117 من قانون أصول المحاكمات الجزائية فيما يتعلق بالجرائم من نوع الجنحة التي لا تتجاوز عقوبتها السنة، حيث تفرض المادة المذكورة وجوب إخلاء سبيل الموقوف بعد استجوابه بخمسة أيام، وهذا الأمر لا يحدث – إلا فيما ندر – عند قضاة التحقيق، حيث يمكن أن يبقى الموقوف قيد التوقيف (الإيداع)ً شهراً أو أكثر، وهو بانتظار إخلاء سبيله.
بقي أخيراً أن نشير أن الحلول كثيرة وسهلة جداً لمعضلة إخلاء السبيل، ولنسير بهذا الاتجاه لابد من زيادة عدد قضاة التحقيق سيما إذا علمنا أن كلية الحقوق تخرج سنوياً من جامعة دمشق فقط أكثر من ألف طالب وطالبة، كما لا بد من تطوير عمل المعهد العالي للقضاء، والأهم هو وضع ضوابط قانونية واضحة ترسم قواعد قانونية لإخلاء السبيل بشكل لا يجعل الأمر خاضعاً بشكل كامل لسلطة القاضي، وبالتالي نبعد القضاء عن الشكوك الكثيرة التي تحوم حوله، وخاصة فيما يتعلق بقرارات إخلاء السبيل.