تداعيات الثقافة البصرية
تحضرالصورة التلفزيونية، بوصفها واحدة من أهم المفردات الجملة الثقافية في عصر ما بعد الحداثة، وتلعب دوراً خطيراًـ يزداد باستمرارـ في تكوين الثقافة والوعي والمزاج، بما تنطوي عليه من سمات وخصائص أدت إلى انقلاب واضح في آليات وأنساق الاتصال بين البشر، لصالح "عولمة ثقافية" تثير أسئلة شائكة حول أنماط العلاقة الجديدة بين الانسان والوجود والتاريخ والرؤية الكونية، وصولاً إلى هواجس حول الذاكرة والهوية والتراث. فالصورة التلفزيونية تحوز عناصر ذات تأثير حاسم،يحضر في المستوى الأول قدرتها على تخطي الحواجز اللغوية بين الأمم والشعوب، الأمر الذي أثر (وسوف يتفاقم لاحقاً) على مفهوم النخبة (والطليعة) ودورها في الصياغات الثقافية والسياسية والاجتماعية!
بسيطرة الصورة التلفزيونية، ينتقل العالم إلى مرحلة ما بعد الكتابة (ثورة الاتصالات) وتبرز المفارقة بكون الصورة ذاتها، جوهراً رئيساً، في مرحلتين من تاريخ البشرية: مرحلة ما قبل الكتابة (قبل اختراع الأبجدية) وما بعد الكتابة! وبحضور فارق (ليس طفيفاً) في آليات البث والاستقبال، لتحضر "الأيقونة" كحامل أساسي في تحصيل المعرفة، والقبض على الحقيقة العارية، وليحضر البصر كوسيلة حسية في الادراك: أي إخراج التجربة إلى العلن ووضعها في الحيازة والمنجزعلى المستوى في سبيل هزيمة لحظة الريبة الطاغية عند البشر، الأمر الذي تمثله الآية الكريمة: "وإذ قال ابراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى. قال أولم تؤمن. قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي"سورة البقرة ـ آية260.
إن النتيجة الأولى، لحضور التلفزيونية على هذا النحو الضاري، هي تقلص دور اللغة في الاتصال. وباثارة التساؤلات العريقة عن العلاقة بين اللغة والفكر، سنلحظ التأثيرات القادمة على عملية إنتاج المعرفة ذاتها، ولن يمكن حسم النتيجة، أو التنبؤ بالنتائج القادمة كاملة، بسبب انحسار موجة اللغة بوصفها الحامل الأهم في إنتاج التجربة الانسانية ونقلها، فالصورة،أيضاً، قائمة في العقل البشري، وركن أساس في بنيانه. والتصور خصيصة عقلية، وإحدى الطرق الكبرى في الادراك، وحيازة المعرفة، والاتصال بالعالم.
وفي مستوى آخر، ستترك الصورة التلفزيونية آثارها الجلى على العملية الفنية، والشعرية منها على وجه الخصوص، بسبب حضور اللغة المميز ووجودها الخاص في الشعر، أداة وفضاء، رغم اعتماد الشعرـ ذاته ـ على الصور البلاغية ذات الصلة الجوهرية باللغة، إضافة إلى كونها الوسيلة الفنية الراقية لتصوير المعاني، ولن يمكن حل التناقض القائم بين الصورة التلفزيونية والصورة البلاغية بسبب الاختلاف بين الآليتين. فالصورة التلفزيونية تنحو باتجاه نسخ الواقع كما هو، في حين أن الصور البلاغية تتصل مع الواقع وتعيد إنتاجه عبر العملية الإبداعية بشكل يمد القارئ بالطاقة الإضافية (أو ربما باثارة الطاقة الكمونية) في سبيل وعي العالم والإحاطة بقوانينه السرية (وليس المعلنة كما في حال الصورة التلفزيونية) مما سيؤدي إلى حدوث تبدلات في البنية العقلية والوجدانية، الفلسفية والوجدانية، وصولاً إلى الاحتدام الكبير بين العقل والوجدان، بين الحقيقة والمجاز.. خاصة إذا ما وقعنا على ذلك الالتقاط البارع لعبدالقاهر الجرجاني، الذي نحا باتجاه عقد الصلة الشعر والفنون النفعية وطرق النقش والتصوير، وما من شك أنه فعل ذلك، مراهناً في العمق، على ذلك التشابه والتلاقي بين الصورة في الشعر والصورة في النقش. وإذا ما علمنا أن المادة الشعرية لن تتحقق إلا بحضور الصور البلاغية وبكيفية استخدامها فنياً، لاستطعنا أن نحدس إحدى طرق العقل البشري في إحاطته التجربة الإنسانية وعلاقاتها مع الوجود والمفاهيم الأخرى على المستويين: المعقول والمحسوس. وليس مفاجئا أن يرى "موكاروفسكي" أن اللغة الشعرية تعيد إحياء موقف الإنسان، ومن الواقع أيضاً..وهكذا فإن موقع الشعر من اللغة يمثل ذلك النزوع الحاطب إلى تجاوز العالم عبر تجاوز اللغة ذاتها، بقوانينها وعلاقتها المستقرة، وبالتالي فالصور البلاغية تمثل إحدى طرق الإقناع ـ عبر التأثير الفذـ على ضرورة تجاوز هذا العالم العَياني، والولوج إلى عالم أكثر رحابة، عالم يقبع داخل الإنسان نفسه، عالم الإنسان الذي ينطوي عليه العالم الأكبر. وهنا سوف يحل التناقض الهائل، فالصورة البلاغية التي يقترحها الخيال، ويحملها المجاز، صور تحيل إلى الداخل، بينما تحيل الصورة التلفزيونية إلى الخارج.
في هذا السياق، لا يمكن إغفال تأثيرات الكاميرا على الصورة الشعرية، إذ منذ تمكن العقل من اختراع آلة التصوير الفوتوغرافية..بدأ الوجدان بمحاولاته الجلية في خلق الصور الشعرية العصية على الإنجاز في المستوى المحسوس، فكان إنتاج (الوجدان) لحظته السريالية (فيما بعد) كأحد محاولات الخيال في مقاومة الصورة الفوتوغرافية، (تماما كما حصل في تاريخ اللوحة التشكيلية) لا، بل إن انتهاج الشعرية لما استقر لاحقاً على صيغة: تراسل الحواس، ليس أكثر من محاولة وطيدة في خلق صورة لا يمكن لكاميرا أن تنتجها بأي حال..
هل نحل هذا التناقض الذي يعمل في الطبقات العميقة على خلخلة البنى الشعورية والانفعالية والتصورية عند الإنسان؟ وهل من المطلوب حله فعلاً، والتفكير بالتداعيات الناتجة عن هذه العلاقة (ذات التأثيرات) بين الصورة البلاغية والصورة التلفزيونية؟!.
يمكن أن نبدأ من لحظة تأمل توفرها اللغة ذاتها (بوجودها الحميم) حين نعثر على ذلك الارتباط والشبه بين البصر والبصيرة، فكلاهما مشتق من جذر ثلاثي واحد: بَصَرَ. والفعل: رأى..يحيل في اللغة العربية، في الوقت ذاته، إلى نوعين من الرؤية: الرؤية القلبية(الداخل) والرؤية الحسية المرتبطة بعضو العين (الخارج).