مطبّات حلقة أولى فساد
قد يشبه العنوان إلى حد كبير عنوان رواية ناعمة (سنة أولى حب) للروائي المصري (مصطفى أمين)، وهي تحكي قصة المجتمع المصري في شريحته الناعمة، وإلى جانبهم الشريحة الأكبر (الفقراء) كخدم وبوابين، حتى رسمت هذه الأعمال صورة للبواب المصري النوبي (عثمان) في كل أذهان الذين عاصروا مرحلة سيادة الدراما المصرية. ولست هنا بصدد الحديث عن الرواية، لكن تشابه الظروف والتسطيح يشبه إلى حد كبير ما نعيشه في هذه المرحلة... الطبقة الناعمة المتخمة وشريحة الخدم الكبرى من الذين يؤدون الإتاوة للناعمين.
أما حلقة الفساد الأولى فتبدأ، من الوحدة الأصغر، مجالس البلدات والمدن، حيث المجلس البلدي بمجموعة عمله هي الملتصقة بهموم الناس وأوجاعهم، فأشيائهم الصغرى، ومشاكلهم، وهي صاحبة القرار في حلها أو تفاقمها.
ولقد أثبتت الدورة الماضية لهذه المجالس، من النتائج العملية لسنوات خدمتها للمجتمع، أنها لم تقدم ما عليها، إن لم تكن ساهمت في تراجع مستوى الأداء والخدمة، فإقالة /ثلثهم/ أي رؤساء المجالس، تؤكد الفشل الذريع لتحملهم المسؤولية، والأسباب في معظمها (الفساد)، الداء الذي يضرب مفاصل العمل المجتمعي، الوظيفي للدولة... هذا ما يتعلق برؤساء مجالس المدن، أما مجالس البلدات المغيبة، فالقضية لا تتعدى إعادة (تزفيت طريق، إصلاح مصابيح الأعمدة الكهربائية، تعيين قريبة أمين الفرقة الحزبية)..الخ من هذه الصغائر.
والأدهى أن المعنيين بتعيين هؤلاء مازالوا مصرين على انتقاء النموذج نفسه.. من الشريحة والمواصفات نفسها، القدر الكبير من الولاء لمصالحهم، أن يكون رئيس المجلس خادماً لا أكثر للذين أرادوا له هذا المنصب، يؤدي ما يشتهون، ويلبي ما يطلبون، ولا يرى مخالفة لهم ولأتباعهم، بل على العكس يبذل الجهد في خلق الذرائع لهم، وتقديمهم في احتفالات بلدته، ورسم صورة لهم تشبه الملائكة الحارسين لمصالح الوطن، وهم بدورهم يدافعون عن (الفاسدين الصغار) ويحمونهم ويستميتون بالدفاع عن نزواتهم، حتى إذا أراد رئيس المجلس أن يحقق لنفسه فائدة، (فصانع السم يتذوقه)، وهو جزء قليل مما يقدمه من خدمات.
في مدينة ما، بريف دمشق، يتهرب المهندسون والأكفاء من استلام منصب رئيس المجلس، وحجتهم في ذلك أن من يريد أن يصبح (لصاً) ما عليه سوى اعتلاء كرسي البلدية، والسبب ما تردد عن فساد أغلب الذين تسيدوا هذا المنصب، وهذا ما يترك المجال دائماً، إما للضعفاء الذين يسهل فرض الأوامر عليهم، أو الفاسدين الذين يشترون هذا المنصب بمالهم أو بانحنائهم.
في هذه المدينة، كثر الحديث عن الفساد.. حتى الأرصفة تم تزوير تقارير مواصفاتها.. والمشاريع الرئيسية المتعلقة بالبنى التحتية سلمت لمتعهدين فاسدين، من الصرف الصحي، المياه، والكهرباء. أما ما يسمى بالقانون رقم /1/ الخاص بمخالفات البناء، فلقد استثمروه جيداً، ضربوا المخالفين الفقراء. من يريد أن يبني مطبخاً أو غرفة لابنه الذي يريد أن يتزوج، وساهموا في ازدهار تجارة البناء، وأحاطوا أنفسهم بمتعهدي المخالفات، وتقاسموا الإتاوات، وأرباح التستر عليهم على البناء في قلب المدينة، ووئد القانون رقم /1/ في جيوبهم الفارغة...
ثم تأتي المناسبات الوطنية وما أكثرها، فيشيدون المنصات، والمنابر، ويتحدثون بالعبارات التي تقسم ظهور معارضيهم، يتحدثون عن محاربة ولي نعمتهم (الفساد)، والدفاع عن الوطن، والإخلاص له، ومحاربة الرأسمالية والاستعمار، ويرددون النشيد الوطني، ويقفون دقيقة صمت على أرواح الشهداء، ثم يقبضون ثمن فواتير (الكاتو) والأزهار، واللافتات، أضعافاً مضاعفة، ويديرون ظهورهم لدافع الضريبة الأول (المواطن).
بهذه العقلية قاد المذكور المدينة إلى الخراب، ساهم في غلاء العقارات وليس العراقيين، وانتعش في عصره الميمون تجار البناء، ومتعهدو المخالفات، وصار صغار الموظفين كبارهم، واللواتي لا عمل لهن صرن من تعداد العاملات في خدمة المواطن، والآذن لديه معقب معاملات، والمحاسب يملك دفترين للإيصالات، خارجي وداخلي، ويسهر يومياً، وتحجز له طاولة مفتوحة ويحمل (موبايل) فاتورته بعشرات الآلاف، وصار عنده سيارة بعد أن كان يستدين علب الدخان من كل دكاكين البلدة..
تلوثت المياه، وسارت مياه الصرف الصحي في الشوارع، وأما تعبيد الطرق فيتم عند إشاعة زيارة المحافظ للمدينة، وكثرت الحفر، وعاشت المدينة أكثر من عام في زوبعة من الغبار، وسجل أكثر من مائة مخالفة بناء لدى دوائر التفتيش... ثم انتهت الدورة الانتخابية مع كل هذا الفساد ورئيس المجلس يتحدث عن حب الوطن والعمل لمصلحة المواطن...
حلقة أولى فساد...رأس الحربة فيه.