ربّما! في حارتنا شاعر
أعفاه مديره من الدوام وطلب منه عدم المجيء إلى الدائرة إلى يوم قبض الراتب.
تعاطفنا معه، ولكنّنا، حين عرفناه عن كثبٍ، أدركنا أن ذلك المدير على حق. فالرجل الأربعيني حامل ماجستير الهندسة المدنية، كتلة من العقد النفسية، وفي مقدمة عقده المزمنة فوبيا الملاحقة، والناس عنده نوعان: مخبرون وضحايا الخطوط الجميلة. والمخبرون، على العموم، دمروا حياته، إذْ لم يتقدّم لخطبة فتاةٍ إلا وأفسدوا مشروع ارتباطه، لذا تزوج من واحدة أقل من عادية، وبالكاد تقرأ وتكتب. نسأله: لماذا لم يفسدوا هذا الزواج؟ يخبرنا لأن هذه المرأة أيضاُ من ضحايا المخبرين. الأهم من هذا أنه يشعر أنه ملاحق من الإنتربول الدولي، والـ(FBI)، والـ(KGB).. يعلّق قميصه على المشجب، وصباح اليوم التالي يجده قد مزّق بمقصّ. يضع النقود في مكان يعرفه، وبعد قليل تكون اختفت.. هذه هي تأكيداته على وجود من يدمر حياته. وقد يظن البعض أن شخصاً على هذه الدرجة من الاضطراب يكتب شعراً خطيراً. لكنّ واقع الحال عكس ذلك، فهذا الشاعر يقسّم الشعر إلى نوعين: شعر غزل، وشعر سياسي. الأول يقرؤه للجميع، الثاني للخاصة فقط. ولا يعترف بنوعٍ ثالث. وفي حين تحفل حياته بالمفاجآت والمواقف العسيرة، تجد شعره يراوح في منطقة مدرسية، وأقل من مدرسية حتى الجيران يتسلون به حين يؤكدون له أنّه على حق في كل ما يتهيأ له: «المحطة مير تراقبنا ونحن في الحمام». وبات يستحم بملابسه. «غزاة الفضاء سّمموا الخبز!». وتخلّى عن وضع كسرة خبزٍ في فمه واصلاً إلى حدود التلاشي. «في بيتك كنزٌ لأن الموقع الذي تسكن فيه الآن، كان خزنة مال أيام الرومان!». وخلال أسابيع تتحوّل غرف البيت إلى حُفَر.
في حارتنا شاعرٌ لكنّ أهل الحارة يعملون على قتله ببطءٍ، وهو غافلٌ وراضٍ، ولا يكفّ عن الحديث عن أشباح وعفاريت وصحون طائرة وفيالق قتل مأجورة..
في كل جيل ترتكب الحارة الجريمة ذاتها مع واحد من أبنائها.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.