هايل محمد الطالب هايل محمد الطالب

عندما يصبح المكان بطلاً مطلقاً

تطرح رواية وادي العريش جملة من الأسئلة، لعل في مقدمتها مشروعية انتمائها إلى الفن الروائي والسردي عموما؟ وإشكالية الفكر المكاني الغالب على الرواية؟ ومدى قدرة اللغة الشعرية على تغليف النزعة الفكرية العالية، والتخفيف من حدتها؟ وأسئلة أخرى كثيرة، ولكن الذي لا شك فيه هو القدرة العالية لدى محمد غفر على جرنا إلى متابعة القراءة.

لاشك أن من ينتظر قراءة سرد روائي تقليدي، فإنه لن يجده عند الكاتب غفر، فالنزعة التمردية لا تتجلى في ما تطرحه الرواية من أفكار بقوالب أسلوبية متنوعة فقط، وإنما تتجلى بأسلوب السرد، فالكاتب يرتاد مناطق أخرى للسرد في محاولة للبحث عن خصوصية روائية وفّق كثيرا في إقناعنا بها، ويهمني في هذه العجالة أن أتوقف عند جانبين تقوم عليهما الرواية، هما الجانب المكاني، وجانب اللغة التعبيرية وتقنيات العرض، فأول ما يلفت الانتباه أن البطل المطلق في الرواية، هو المكان ويكاد يكون الحوار هو عنصراً مكملاً لإظهار جماليات المكان من هنا برز السرد الوصفي في الانحياز للمكان وإيثاره على المكملات الفنية الأخرى، ولاسيما الشخصيات منها، فتسيطر ثنائية الخير والجمال والحنين للبدايات، التي تمثل عنصر الجمال، في مقابل رمز المخصيين الذين يمثلون انهيار القيم ومحاربة الجمال، من هنا فالصراع الروائي قائم على التنافس الفكري بين مبدأين هما مبدأ الخير المطلق، القائم على النقاء، في محاولة للدفاع عن المكان وجمالياته البصرية والفكرية، لذلك لابأس أن يحارب الكاتب التلوث الفكري البالي، سواء السياسي منه أو الديني، أو الجمالي متمثلا بالدفاع عن أشياء المكان وخصائصه الطبيعية والجمالية، وبذلك يبرز الاحتفاء بوادي العريش كحامل جمالي وفكري لما يراد التعبير عنه من الكاتب، فيبرز الوصف كعنصر أساسي في السرد، عبر الاحتفاء بجزئيات المكان، من أزقة، وسياج، وفناء الدار، السفح، الوادي، وادي العريش، الطريق، الماء، الشجر، الحيوان، والقصب، ثم عبر إبراز علاقات المكان بالطبيعة من شتاء ومطر وصيف، في محاولة لقراءة تلك الأشياء من الداخل، والغوص في فلسفتها الداخلية العميقة، وبذلك لايكتفي محمد غفر بالترف البلاغي لإيصال فكرته، بل يدخلنا إلى كنه الأشياء التي باتت في ذهننا مألوفة بحكم العادة لينفض عنها غبار الجمال، وليشعرنا بأهميتها البلاغية والشعرية، والجانب الثاني الذي يلفت الانتباه هو اللغة الشعرية الباذخة التي يعتمدها غفر ويتكئ عليها في رفع رؤى النص وقيمته الفنية، والطرافة، أن اللغة هي لغة المكان الذي تتناوله، وبذلك فهي، لغة الطبيعة، بامتياز، لذلك لا غرابة أن نقول إن السروة، والماء، والطيور، وكل ما تعبق به البيئة الجبلية، من سمات طبيعية، هي أبطال من نوع أخر للرواية، ولكن إن كان من مأخذ على الرواية، فهو اعتمادها تقنية التكرار في الوصف للكلمة النواة ، وهذه تقنية شعرية، توظيفها بكثرة، أرهقت السرد، الذي كان يمكن أن يكون سلسا بصياغات أخرى، ومن ذلك قوله: ( السفح الشدو، السفح الشدن، السفح النبع، السفح الدفق، السفح نزور الخمر والكلم، السفح أخر زيق لله على الأرض، السفح الشظف،...) وهذه تقنية مسيطرة على أسلوب الكاتب دائما في الرواية وقامت عليها أحيانا مقاطع كاملة كما يمكن أن نلحظ، مثلا ص98، إذ قام المقطع على تكرار الكلمة النواة، والعزف على دلالاتها، وهي كلمات( المزارت، المخصيون،هادي، ماركس،) وكذلك يلحظ الجرأة اللغوية للكاتب في استخدام مفردات مغرقة في الخصوصية المحلية، وهي وإن كانت ميزة في بعض الأحيان وخاصة مكانية بامتياز إلا أنها قد تقطع التواصل عندما لا يصل المتلقي إلى معناها من تلك الجرأة نقرأ (اندلس، يمدش، يمتلخ، يكرع، ...)

أخيرا لاشك أن محمد غفر يقدم في روايته رؤى فكرية وجمالية تستحق الوقوف مطولا عندها، ولاسيما أنها رؤى توحي بقلق صاحبها ، وانشغاله بها، في محاولة منه لتلمس حل ما، ولو كان فنيا جماليا، لقهر القبح الذي يحيط بنا من كل الجهات.