الكتابة من الكهنوت إلى البنكنوت..
ليس مفاجئاً ذلك الدور الذي اضطلع به الكهنة في صياغة الثقافة في الحضارات القديمة. والصحيح أيضاً، أن عملية الكتابة –ذاتها- قد نشأت هناك، في المعابد والهياكل وأماكن العبادة. لقد تم اختراع الأبحدية على أيدي الكهنة أنفسهم.. ولعل هذا ما يفسر ارتباط الكتابة بالطقوس السرية، فربما يكون هذا الأمر نوعاً من استحضار مناخات الأسلاف، وأمزجتهم.. ففي عمق الكاتب يقبع – غالباً- كاهن ما!..
ليس التاريخ لاعباً فذاً دائماً.. بل غالباً ما كان صدى لتطلعات البشر المشروطة بسياقاتها الزمانية والمكانية، ولهذا استطاعت الكتابة (ليس نهائياً) باعتبارها نشاطاً إنسانياً راقياً، أن تتحرر، وأن تخرج عن المسارات الأولى التي حكمتها، لصالح حرية الإنسان وخياراته وأيضاً.. مشروعه التعميري على هذا الكوكب.
وما من شك في أن الكتابة حملت هذا المشروع بدوافعه ونتائجه، محايثة لواقع الإنسان وأحلامه، لظروفه وطموحاته في التشييد العام ذي البناءات الفكرية والثقافية والسياسية.. ألخ.
غير أن ثمة لاوعياً يناهض هذه المسيرة الكتابية، بتجلياتها الإبداعية والفكرية والتوثيقية، إضافة إلى عوائق أخرى: سياسية واقتصادية واجتماعية!.. ومعروفة للقاصي والداني العوائق ذات العلاقة بالسلطة وبالبنية السياسية، وربما مفهومة تلك العوائق الاقتصادية ذات الهم الربحي. أما أن تظهر معوقات اجتماعية ذات صبغة ثقافية للممانعة الكتابة فهذا يبدو أمراً غير مفهوم.
ربما بسبب تلك المقولة ( الحيطان دفاتر المجانين) لن تبدو جدران مدننا قميئة وحسب، بل خالية من الكتابات، وليس الأمر تحيزاً للكتابة كما يبدو للوهلة الأولى، ولا انتصاراً لشرفها.. هي القادمة من تلك الأماكن الأسرارية بكل هجسها الميتافيزيقي، بل هو ممانعة لتعميم الرسائل الكتابية وتفشيها في الأماكن العامة. فالكتابة –هاهنا- عمل جنوني، والجنون –هاهنا، مرة أخرى- مرض عقلي. إنه عزل الشارع. والعزل يتم هذه المرة بممارسة أخلاقية نابعة من تجربة الجماعة، ولذلك لن نرى في شوارعنا، كما في شوارع الآخرين، عازفاً موسيقياً (هذا يثير الضحك، كالجنون، وربما الرثاء) ولا رساماً تشكيلياً، أو كاريكاتورياً، ولا ممثلاً مسرحياً. وبينما استعملت معظم الثورات في العالم الجدران كمنصات لنشاطاتها ورؤيتها في الأداء الثقافي والسياسي.. إلا أن هذا لن يعنينا في شيء. وقد يكون السبب –حقيقة- هو الحفاظ على البيئة. فالجنون –ولا شك- يفسد البيئة!.. والذكاء هنا أننا اكتشفنا العلاقة بين اللوثة والتلوث!..
ما يضير في هذه المسألة تحديداً، أن ممارسي الكتابة والمشتغلين بها يبدون مرتاحين لهذا العزل (وداعاً أيها المثقف العضوي) وأكثر من ذلك يتقوقعون حول أنفسهم (وحول أولي الأمر) منقطعين عن تيار البشر، بشكل يوحي أنهم "طبقة كهنوتية".. أنهم "الكتبة الجدد" بلغة الكتاب المقدس!!..
وما يضير أكثر، ذلك الحس الإنساني العميق بأن المعرفة ثمرة محرمة (وهي فكرة التقطها الكهنة أنفسهم) وبالتالي لا بد من دفع الثمن الباهظ من أجلها. البعض يفضل أن يبقى كاهناً، ودونما استعداد لدفع الضريبة.
قال برنارد شو: الناس صنفان (99,.) بشر عقلاء، و(1,.) بشر مجانين، وإن تقدم العالم يتوقف على ذلك الـ واحد بالمئة أخيراً. إن تأمل حال الكتابة من حيث شرطها التاريخي، يأخذنا إلى مناطق أخرى من القول، ربما، تكون أشد التباساً، ونعني: انتقال الكتابة من المنطق الكهنوتي إلى المنطق البنكنوتي. البنكنوت.. هذا أمر يستجر مرارات أكثر بسالة!!..