طارق عبد الواحد طارق عبد الواحد

سرديات لتزجية الوقت (3) مسلسل «البريء» الذي فاتتنا نهايته

وكان يجتمع في بيتنا خلق كثير، حتى جدي صار يأتي.. ولم نعد نذهب إلى بيته إلا قليلاً. وطبعاً أعمامي وزوجاتهم، وأعمام أبي وزوجاتهم، وبعض الجيران. الحارة كلها تحبنا، وتحب أبي.. ويأتون للسهر عنده، وكان أبي سعيداً لدرجة أنه علق عدة لمبات إضافية في الزقاق..

وكان الجميع مندهشين بالتلفزيون.. يتفرجون، ويتساءلون، ويتفاجؤون، ويستغفرون الله! كان يشاهدون كل شيء، ويستغربون كل شيء ويستمتعون بكل شيء، ما عدا نشرات الأخبار. فما أن يحين موعدها.. حتى يكتمون الصوت، ولا يلتفتون حتى إلى الصور. وكنت أستغرب ذلك وأواصل المشاهدة، ولكنني اكتشفت بعد فترة قصيرة أن الحق معهم، فهي لا تثير الاهتمام، وأكثر من ذلك كانت مملة..

وكانت نشرات الأخبار، من أصعب الأوقات وأطولها بالنسبة لهم. وكان جدي يستغل هذا الوقت دائماً في الصلاة، ويصلي أكثر من مرة، ثم يعود ويتساءل فيما إذا انتهت النشرة. ولم تكن النشرة لتنتهي. أما الآخرون..النساء غالباً فقد كن يسقطن في النوم، وكذلك بعض الرجال، فيما يقاوم البعض ببسالة كي لا تفوته مشاهدة المسلسل..

وكانت من اللحظات الغالية بالنسبة لي، أن أبادر إلى إيقاظ جدي وجدتي في اللحظة التي تعلن فيها المذيعة للمشاهدين الأعزاء عن الحلقة الجديدة من المسلسل. الجميع أحب مسلسل (البريء) إلى درجة غير معقولة، وكانوا ينفعلون، ويحزنون، ويشتمون. واحدة من زوجات أعمامي.. كانت تبكي بلا سبب، ولم يتدخل أحد لمواساتها، أو التخفيف عنها. العيون حزينة، الصمت مريب، السجائر تشتعل، التنهدات سوداء..وراجفة!

في النهار كانت أمي تتكلم عن البريء مع جاراتها، ممن لم يشاهدن المسلسل، أو ممن غلبهن النوم، وتتبادل معهم التعاطفات الحزينة، وتدعو بالهلاك.. على أعداء البريء. أمي لم تعرف سبباً واحداً لكل هذا الظلم، ولا أنا! مع أن أحد أعمامي.. كان يؤكد أن (البريء) سينتقم من الخصوم البشعين في الحلقة الأخيرة. ومتى تأتي الحلقة الأخيرة؟!..

الجميع كانوا ينتظرون الحلقة الأخيرة، وعندما جاء موعدها.. ندت من الكثيرين آهة فرحة، ولكن.. في اللحظة الحاسمة، عم الظلام. انقطعت الكهرباء، فصعق الجميع، وسرت همهمات وشتائم تعبر عن المرارة وخيبة الألم. لم يغادر أحد كالعادة، وظلوا ينتظرون عودة الكهرباء، وحتى النساء النائمات استيقظن وشاركن الآخرين في الانتظار..

ابن عم أبي حاول أن يقص نهاية المسلسل (لا بد أنه كان يفكر بصوت عال) سيهرب (البريء) من السجن، وسوف يقتل جميع المتآمرين، وسوف يتزوج الفتاة التي أحبها. لم يكن أحد ليعلق شيئاً، وبدوا كأنهم لا ينصتون إليه، كما أنهم لم يتضايقوا منه.

فات موعد النهاية، ولم تأتِ الكهرباء.. مع أن الجميع كانوا يملكون إحساساً غريباً بأنها ستعود، ربما برمشة عين... لأنها الحلقة الأخيرة! أو ربما لأنهم كانوا يدعون الله سراً، بقلوبهم، بكل تلك اللوعة، بكل ذلك التضرع..

في الأيام التالية، عرفوا بعض أحداث النهاية، ذلك أن أحد الأشخاص في حارة أخرى قد احتاط لمثل هذا الغدر، فوصل التلفزيون إلى بطارية التراكتور.. وطالما تساءلت: لماذا ليس عندنا تراكتور؟!..

النهاية لم تشفِ غليل المتجمعين في بيتنا، رغم أنهم عدلوا وأزادوا، ورغم بداية المسلسل الجديد إلا أن أحداً لم يهتم كثيراً، وغالباً.. ما كانوا يعدلون عن المشاهدة، ويتحدثون عن (البريء)..

حتى في هذه الأيام، ورغم مرور السنوات الكثيرة، كلما تحدث أحد عن سجين ما، أشعر أنه بريء، ولا بد أن أمي تشعر بذلك، وأبي، وجميع الذين كانوا يسهرون عندنا، بمن فيهم جدي، الذي مات منذ سنوات قاسية..