محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

تراث عن شبيب والطغاة

قليلةٌ هي الحالات التاريخية التي يرتفع فيها الواقع إلى مستوى الأسطورة، وفي حالة شبيب الخارجي لا يمكننا أن نتهم المؤرخين القدماء بالمبالغة والتهويل، فذلك المثال النادر عن الشجاعة في مواجهة الطغاة والعبقرية الفذة في ملاقاتهم صدر عن شخصٍ يحسب على المعسكر الملعون تاريخياً من الجميع، ونعني فرقة الخوارج التي عبرت عن آمال وأحلام أكثر المسلمين بساطةً وأشدهم تهميشاً من المؤسسات السلطوية والمعرفية الإسلامية.

ربما لم يستطع الخوارج أن يقدموا الكثير للحضارة الإسلامية، وبالتأكيد فقد كانوا في موقفهم المثالي المتشدد من قضية الحاكمية وفي قيامهم بتكفير كل مخالفيهم من المسلمين أسلافاً للعديد من الجماعات الإسلامية المتشددة الموجودة في أيامنا، إلا أن السياق التاريخي الذي ظهر ضمنه الخوارج وخاضوا فيه معاركهم يختلف كثيرا عن السياق الذي ظهرت ضمنه الجماعات المذكورة مما يجنِّب الباحث المدقق اجراء مقارنات تبسيطية بين الطرفين، فقد رفع الخوارج شعار «لاحكم إلا لله» كرد فعل متطرف على النتيجة التي أفضى إليها التحكيم بعيد معركة صفين؛ حيث أدى الإدعاء بتحكيم النصوص المقدسة إلى تحكيم الرجال الذين استغلوا تلك النصوص لتمرير مصالحهم السياسية مموهةً برداء المقدس، وعبرت ردة الفعل تلك عن مواقف الكثيرين من المؤمنين البسطاء الذين شعروا أنهم قد خدعوا بشدة، فاجتذبتهم بسرعة الشعارات الديموقراطية التي رفعها الخوارج حول مسألة الخلافة، وشعروا أن تلك الفرقة تعبر عن ثورتهم السياسية والاجتماعية ضد التفاوت الطبقي والقمع السياسي الذي شهده العصر الأموي، فاكتسب الخوارج بذلك الكثير من الدعم من الطبقات المسحوقة.

إن ثورة الخوارج التي لم تعرف المهادنة وصلت إلى قمتها مع القائد شبيب الخارجي الذي واجه أحد أكثر الطغاة شراسةً في التاريخ الإسلامي وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، ولعل شبيب هو المعارض الوحيد للخلافة الأموية الذي استطاع أن يذلَّ الحجاج ويحطم هيبته في عيون الجماهير المضطهدة، مستعملاً أسلوب حرب العصابات ومعارك الكر والفر في تدمير الجيوش النظامية المتلاحقة التي كان الحجاج يرسلها إليه، حتى أصبح يملك سمعة أسطورية في الميدان العسكري مازالت تدهش الخبراء العسكريين حتى يومنا هذا.

وقد قرر بعد فترة أن يقوم بحركة ذات تأثير معنوي كبير، فقال لأنصاره أن والدته «غزالة» التي لاتقل شهرة عنه نظراً لمشاركتها الفعالة في حروبه وغزواته قد نذرت نذراً إلى الله بأن تصلي في مسجد الكوفة (وهو مركز المدينة التي يستقر بها الحجاج ويدير منها كل القسم الشرقي للامبراطورية الاموية) صلاةً تقرأ فيها سورة البقرة كاملةً وهي أطول سور القرآن، ثم جمع أنصاره واقتحموا مدينة الكوفة واستطاعوا السيطرة على مسجدها لتدخل غزالة إلى المسجد وتصلي صلاتها تحت حراسة شبيب ورفاقه، في حين اختبأ الحجاج في قصره لايجرؤ على فعل شيء، وبعد ذلك انسحب شبيب من الكوفة بعد أن حقق هدف حملته.

وحاول شبيب فيما بعد أن يقوم بخطوته الكبرى وهي السيطرة على الكوفة بشكل كامل وإسقاط حكم الحجاج نهائياً، وكاد ينجح في مسعاه لولا التعزيزات الكبيرة التي استدعاها الحجاج من مركز الخلافة الأموية والتي استطاعت أن ترد جيشه عن الكوفة بصعوبة بالغة، فانسحب عن حدود المدينة ليتدخل عامل المصادفة في إنهاء خطره إلى الأبد حيث انزلق عن ظهر جواده وتوفي غرقا في أحد فروع نهر دجلة.

ربما لم يكن من الممكن لحركة شبيب ولثورة الخوارج بشكل عام أن تحقق أهدافها بسبب افتقادها للواقعية السياسية والتنظيم المحكم، ورغم ذلك فإن اسم شبيب بقي حياً في وجدان ملايين المستعضفين والمضطهدين كواحد من أبطال الحرية المفقودة.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.